السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِنَّ إِلۡيَاسَ لَمِنَ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (123)

القصة الرابعة قصة إلياس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى : { وإن إلياس لمن المرسلين } روي عن ابن مسعود أنه قال : إلياس هو إدريس ، وهو قول عكرمة وقال أكثر المفسرين : إنه نبي من أنبياء بني إسرائيل ، قال ابن عباس : وهو ابن عم اليسع عليهما السلام ، وقال محمد بن إسحاق : هو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران عليهما السلام .

تنبيه : أذكر فيه شيئاً من قصته عليه السلام قال علماء السير والأخبار : لما قبض الله تعالى حزقيل النبي عليه السلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل ، فبعث الله تعالى إليهم إلياس نبياً وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى عليه السلام بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة ، وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون عليه السلام لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل وأحل سبطاً منها ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان منهم إلياس ، فبعثه الله تعالى إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك اسمه لاجب وكان أضل قومه وجبرهم على عبادة الأصنام ، وكان لهم صنم طوله عشرون ذراعاً وله أربعة وجوه وكان يسمى : ببعل وكانوا قد فتنوا به وعظموه وجعلوا له أربعمائة سادن أي : خادم ، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها عنه ويبلغونها الناس وهم أهل بعلبك ، وكان إلياس يدعوهم إلى عبادة الله وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك فإنه آمن به وصدقه ، فكان إلياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده وكان للملك امرأة تسمى : بإزميل جبارة وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها ، وكانت تبرز للناس فتقضي بينهم وكانت قتالة للأنبياء ، ويقال : إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام ، وكان له كاتب رجل مؤمن حليم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلثمائة نبي كانت تريد قتلهم إذا بعث كل واحد منهم سوى الذين قتلتهم وكانت في نفسها غير محصنة ، وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل وقتلتهم كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال : إنها ولدت سبعين ولداً ، وكان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له : مزدكي ، وكان له جنينة يعيش منها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته ، وكانا يشرفان عليها يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها ، وكان الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي ويحسن إليه ، وامرأته إزميل تحسده لأجل تلك الجنينة وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها وتحتال أن تقتله ، والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلاً ، ثم أنه اتفق خروج الملك إلى مكان بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته إزميل ذلك فجمعت جمعاً من الناس وأمرتهم أنهم يشهدون على مزدكي أنه سب زوجها لاجب فأجابوها إليه وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سب الملك إذا قامت عليه البينة ، فأحضرت مزدكي وقالت له : بلغني أنك شتمت الملك فأنكر فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فأمرت بقتله وأخذت جنينته ، فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال لها : ما أصبت ولا أبداً نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت أمره بأسوء الجوار قالت : إنما غضبت لك وحكمت بحكمك فقال لها : أوما كان يسعه حلمك فتحفظين جواره ؟ قالت : قد كان ما كان فبعث الله إلياس إلى لاجب الملك ، وأمره الله أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب عليهم لوليه حين قتلوه ظلماً وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ويردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما ، يعني : لاجب وامرأته في جوف الجنينة ، ثم يضعهما جثتين ملقيين فيها حتى تتفرق عظامهما من لحومهما ولا يتمتعان بها إلا قليلاً ، فجاء إلياس فأخبر الملك بما أوحى الله في أمره وأمر امرأته والجنينة ، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ، وقال : يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلاً ، وهم بتعذيبه وقتله ، فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هارباً ، ورجع الملك إلى عبادة بعل وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه ، ويقال : أنه بقي سبع سنين شريداً خائفاً يأوي الشعوب والكهوف ، يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا العيون عليه والله تعالى يستره منهم ، فلما طال الأمر على إلياس وطال عصيان قومه وضاق

بذلك ذرعاً أوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين : يا إلياس ما هذا الخوف الذي أنت فيه ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي ؟ فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم ، قال : تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني ، فأوحى الله تعالى إليه : يا الياس ما هذا اليوم الذي أعرى منك الأرض وأهلها ؟ وإنما قوامهما وصلاحهما بك وأشباهك وإن كنتم قليلاً ولكن سلني فأعطك ، قال إلياس : إن لم تمتني فاعطني ثأري من بني إسرائيل ، قال الله تعالى : وأي : شيء تريد أن أعطيك ؟ قال : تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشئ سحابة عليهم إلا بدعوتي ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي فإنهم لا يذكرهم إلا ذلك ، قال الله تعالى : يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين ، قال : ست سنين ، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك ، قال : فخمس سنين ، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك ، ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك ، قال : فبأي شيء أعيش ؟ قال : أسخر لك جنساً من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف ومن الأرض التي لم تقحط ، قال إلياس : قد رضيت ، فأمسك الله تعالى عنهم المطر حتى هلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الناس جهداً عظيماً ، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان وقد عرف ذلك قومه .

قال ابن عباس : أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر إلياس بعجوز فقال لها : هل عندكم طعام ؟ قالت : نعم شيء من دقيق وزيت قليل فدعا بهما ودعا فيه بالبركة حتى ملأ خوابيها دقيقاً وخوابيها زيتاً ، فلما رأوا ذلك عندها ، قالوا لها : من أين لك هذا ؟ قالت : مر بي رجل من حاله كذا وكذا ثم وصفته بصفته فعرفوه وقالوا : ذلك إلياس ، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم إنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له : اليسع بن أخطوب به مرض فآوته وأخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به ، واتبع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه وكان يذهب حيثما ذهب ، وكان إلياس قد كبر سنه واليسع غلام شاب ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس أنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعص من البهائم والطير والهوام بحبس المطر ، فقال إلياس : يا رب دعني أنا الذي أكون أدعو لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم أن يرجعوا عما هم عليه من عبادة غيرك ، فقيل له : نعم ، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال : إنكم قد هلكتم جوعاً وجهداً وقد هلكت البهائم والهوام والشجر بخطاياكم وإنكم على باطل ، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون ، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوتم الله سبحانه وتعالى ، ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا : أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لإلياس : إنا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج ، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم وحييت بلادهم ، فلما كشف الله تعالى عنهم المطر لم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه ، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه أن يريحه منهم ، فقيل له : انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه ، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أمر به أقبل فرس من نار ، وقيل : لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه إلياس وانطلق به الفرس وناداه اليسع : يا إلياس ما تأمرني ؟ فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل ، وكان ذلك آخر عهده به ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش ، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً ، وسلط الله تعالى على لاجب الملك وقومه عدواً لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى أرهقهم فقتل لاجب وامرأته إزميل في بستان مزدكي فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما ، ونبأ الله تعالى اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه وأيده ، فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه ، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع .

روى السري بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : إلياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس ويوافيان موسم الحج في كل عام ، وقيل : إن إلياس موكل بالفيافي والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى { وإن إلياس لمن المرسلين } .