ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك من الآيات ما فيه تعزية وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه ، فأخبره بأن ما أصابه منهم يشبه ما فعله المكذبون السابقون مع رسلهم ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } .
قال الجمل : " لما أساءوا في الأدب ، وخاطبوه صلى الله عليه وسلم خطاب السفاهة ، حيث قالوا له : { إنك لمجنون } ، سلاّه الله فقال له : إن عادة الجهال مع جميع الأنبياء كانت هكذا ، وكانوا يصبرون على أذى الجهال . ويستمرون على الدعوة والإِنذار ، فاقتد أنت بهم في ذلك . . . " .
والشيع جمع شيعة وهى الطائفة من الناس المتفقة على طريقة ومذهب واحد ، من شاعه إذا تبعه ، وأصله - كما يقول القرطبى - مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار .
والمعنى : ولقد أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - رسلاً كثيرين ، في طوائف الأمم الأولين ، فدعا الرسل أقوامهم إلى ما دعوت إليه أنت قومك من وجوب إخلاص العبادة لله - تعالى - ، فما كان من أولئك المدعوين السابقين إلا أن قابلت كل فرقة منهم رسولها بالسخرية والاستهزاء ، كما قابلك سفهاء قومك .
وذلك لأن المكذبين في كل زمان ومكان يتشابهون في الطباع الذميمة ، وفى الأخلاق القبيحة : كمال قال - تعالى - { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } والجار والمجرور { من قبلك } متعلق بأرسلنا ، أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف . أى : ولقد أرسلنا رسلاً كائنة من قبلك .
وإضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند بعض النحاة ، أو من حذف الموصوف عند البعض الآخر ، أى شيع الأمم الأولين .
وعبر بقوله - سبحانه - { إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } للإِشعار بأن الاستهزاء بالرسل كان طبيعة فيهم - كما يومئ إليه لفظ كان ، وأنه متكرر منهم - كما يفيده التعبير بالفعل المضارع - والكاف في قوله { كذلك نسلكه . . } للتشبيه ، واسم الإِشارة { ذلك } يعود إلى السلك المأخوذ من نسلكه .
والسلك مصدر سلك - من باب نصر - وهو إدخال الشئ في الشئ ، كإدخال الخيط في المخيط .
والضمير المنصوب في { نسلكه } يعود إلى القرآن الكريم الذي سبق الحديث عنه .
والمراد بالمجرمين في قوله { فِي قُلُوبِ المجرمين } مشركو قريش ومن لف لفهم .
والمعنى : كما سلكنا كتب الرسل السابقين في قلوب أولئك المستهزئين نسلك القرآن في قلوب هؤلاء المجرمين من قومك يا محمد ، بأن نجعلهم يسمعونه ويفهمونه ويدركون خصائصه دون أن يستقر في قلوبهم استقرار تصديق وإذعان لاستيلاء الجحود والعناد والحسد عليهم .
وقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } بيان للسلك المشبه به ، أو حال من المجرمين .
أى : أدخلنا القرآن في قلوبهم ففهموه ، ولكنهم لا يؤمنون به عناداً وجحوداً .
وعلى هذا التفسير يكون الضمير في { نسلكه } وفى { به } يعودان إلى القرآن الكريم ، الذي سبق الحديث عنه في قوله - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
ومن المفسرين الذين ذكروا هذا الوجه ولم يذكروا سواه صاحب الكشاف ، فقد قال : " والضمير في قوله { نسلكه } ، للذكر : أى : مثل ذلك السلك ونحوه نسلك الذكر { فِي قُلُوبِ المجرمين } على معنى أن يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزءاً به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها : فقلت : كذلك أنزلها باللئام : تعنى مثل هذا الإِنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية .
ومحل قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } النصب على الحال ، أى : غير مؤمن به . أو هو بيان لقوله { كذلك نسلكه . . } .
وقد زكى هذا الوجه صاحب الانتصاف فقال : والمراد - والله أعلم - إقامة الحجة على المكذبين ، بأن الله - تعالى - سلك القرآن في قلوبهم ، وأدخله في سويدائها ، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين ، فكذب به هؤلاء ، وصدق به هؤلاء ، كل على علم وفهم { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ . . . } ولئلا يكون للكفار حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإِعجاز كما فهمها من آمن . . . " .
ويرى بعض المفسرين - كالإِمام ابن جرير - أن الضمير في نسلكه يعود إلى الكفر الذي سلكه الله في قلوب المكذبين السابقين ، أما الضمير في { به } فيعود إلى القرآن الكريم ، فقد قال : قوله - تعالى - { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ . . . }
يعنى : كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل ، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركى قومك الذين أجرموا بسبب الكفر بالله .
{ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يقول : لا يصدقون بالذكر الذي أنزل إليك .
ومع أن هذا التفسير الذي ارتضاه شيخ المفسرين ابن جرير له وجاهته ، إلا أننا نميل إلى التفسير الأول الذي ارتضاه صاحب الكشاف ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، ومن المفسرين الذين رجحوا ذلك الفخر الرازى ، فقد قال - رحمه الله - خلال كلام طويل ما ملخصه : " التأويل الصحيح أن الضمير في قوله - تعالى - { كذلك نسلكه } عائد إلى الذكر ، الذي هو القرآن ، فإنه - تعالى - قال قبل هذه الآية { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } وقال بعده { كذلك نسلكه } أى : هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين .
والمراد من هذا السلك ، هو أنه - تعالى - يسمعهم هذا القرآن ، ويخلق في قلوبهم حفظه والعلم بمعانيه . إلا أنهم مع هذه الأحوال لا يؤمنون به عناداً وجهلاً . .
ويدل على صحة هذا التأويل ، أن الضمير في قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } عائد على القرآن بالإِجماع ، فوجب أن يكون الضمير في { نسلكه } عائداً إليه - أيضاً - لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد . . . .
وقوله - سبحانه - { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } تهديد لهؤلاء المكذبين من كفار مكة ومن سار على شاكلتهم ، وتكملة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
أى : وقد مضت سنة الله التي لا تتخلف وطريقته المألوفة بأن ينزل عذابه بالمجرمين ، كما أنزله بالأمم الماضية ، بسبب تكذيبها لرسلها ، واستهزائها بهم فلا تحزن - أيها الرسول الكريم - لما أصابك من سفهاء قومك فسننصرك عليهم .
وأضاف - سبحانه - السنة إلى الأولين ، باعتبار تعلقها بهم ، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا ، والإِضافة لأدنى ملابسة .
استئناف بياني ناشىء عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله { وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون } [ سورة الحجر : 11 ] فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل عليهم السلام كما قال تعالى : { أتواصوا به بل هم قوم طاغون } [ سورة الذاريات : 53 ] .
والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن جملة { وإنا له لحافظون } [ سورة الحجر : 9 ] ؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر . فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقّيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر ، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل . ونظيره قوله في الآية الأخرى { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم } [ سورة التوبة : 125 ] .
والتعبير بصيغة المضارع في { نسلكه } للدلالة على أن المقصود إسلاك في زمن الحال ، أي زمن نزول القرآن ، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن ، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله : { وقد خلت سنة الأولين } ، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات لمن قبلهم .
وفيه تعريض بأن ذلك إعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم .
والمشار إليه بقوله : { كذلك } هو السلك المأخوذ من { نسلكه } على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً } في سورة البقرة ( 143 ) .
والسلك : الإدخال . قال الأعشى :
كما سَلَك السّكّي في الباب فَيْتَق
أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين ، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين ، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه ؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به ، كما قال تعالى : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ سورة التوبة : 124 125 ] .
وبهذا السلوك تقوم الحجة عليهم بتبليغ القرآن إليهم ويعاد إسماعهُم إياه المرة بعد المرة لتقوم الحجة .
فضمير { نسلكه } و { به } عائدان إلى { الذكر } في قوله : { إنا نحن نزلنا الذكر } [ سورة الحجر : 9 ] أي القرآن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.