ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض مظاهر نفاقهم وخداعهم فقال : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } .
قال الآلوسي : نزلت كما قال قتادة والسدى - في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيظهرون له الإِيمان والرضا بما جاء به نفاقا .
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
والضمير في { جاءكم } يعود على اليهود المعاصرين للنبي .
أي : وإذا جاء إليكم - أيها المؤمنون - أولئك اليهود أظهروا أمامكم الإِسلام ، وقالوا لكم آمنا بأنكم على حق ، وحالهم وحقيقتهم أنهم قد دخلوا إليكم وهم متلبسون بالكفر ، وخرجوا من عندكم وهم متلبسون به - أيضاً - فهم يدخلون عليكم ويخرجون من عندكم وقلوبهم كما هي لا تتأثر بالمواعظ التي يلقيها الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم قد قست قلوبهم ، وفسدت نفوسهم .
وقوله : { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } جملتان في موضع الحال من ضمير الجمع في { قالوا } .
والباء في قوله : { بالكفر } وقوله : { به } للملابسة . أي : دخلوا وخرجوا وهم متلبسون بالكفر من غير نقصان منه ولا تغيير فيه ألبتة .
قال الفخر الرازي : وذكر عند الدخول كلمة { قد } وذكر عند الخروج كلمة { هم } لأن الفائدة من ذكر كلمة { قد } تقريب الماضي من الحال . والفائدة من ذكر كلمة { هم } التأكيد في إضافة الكفر إليهم ، ونفي أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل ، أي : لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفرا ، فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر ، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم .
ويبدو لنا أنه عبر عن دخولهم بقوله { وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر } وعبر عن خروجهم بقوله : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } بإضافة ضميرهم مع قد ، للإِشارة إلى أنهم عند خروجهم كانوا أشد كفراً ، وأقسى قلوبا منهم عند دخولهم .
وهذا شأن الجاحديون المنافقين ، لا تؤثر فيهم العظات مهما كانت بليغة ، ولا النذر مما كانت قوية ، بخلاف قلوب المؤمنين فإن المواعظ تزيدها يقينا على يقينها ، وإيمانا على إيمانها . ألا ترى إلى قوله - تعالى - :
{ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون . وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقوله - تعالى - : { والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } وعيد شديد لهم على كفرهم ونفاقهم .
أي : والله - تعالى - أعلم بما كانوا يخفونه من نفاق وخداع عند دخولهم وعند خروجهم ، لأنه - سبحانه - لا تخفى عليه خافية من أحوالهم .
الضمير في { جاؤوكم } لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وخاصة للمنافقين . نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير ، وقوله : { وهم } تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به ، فأزال الاحتمال قوله تعالى : { وهم قد خرجوا به } أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله : { والله أعلم بما كانوا يكتمون } أي من الكفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا جاءوكم} اليهود، {قالوا آمنا}: صدقنا بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، لأنهم دخلوا عليه وهم يسرون الكفر، وخرجوا من عنده بالكفر، فذلك قوله سبحانه: {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به}، يعني بالكفر مقيمين عليه. {والله أعلم بما كانوا يكتمون}: بما يسرون في قلوبهم من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، نظيرها في آل عمران.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإذا جاءكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون من اليهود، قالوا لكم: «آمنا»: أي صدّقنا بما جاء به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، واتبعناه على دينه، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويضمرونه في صدورهم، وهم يبدون كذبا التصديق لكم بألسنتهم. "وهم قَدْ خَرَجُوا به "يقول: وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفى على الله جهلاً منهم بالله. "وَاللّهُ أعْلَمُ بِمَا كانُوا يَكْتُمُونَ" يقول: والله أعلم بما كانوا عند قولهم لكم بألسنتهم: آمنا بالله وبمحمد وصدّقنا بما جاء به، يكتمون منهم بما يضمرونه من الكفر بأنفسهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} أخبر تعالى عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم دخلوا بالكفر لأنهم يقولون ذلك استهزاء، وعلى ذلك خرجوا. ففيه دلالة إثبات رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عما أضمروا ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالذي يعلم الغيب مع علمهم أنه لا يعلمه إلا الله، والله أعلم بما كانوا يكتمون ويضمرون من الكفر والهزء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقوله: (بالكفر) و (به) حالان، أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وتقديره: ملتبسين بالكفر. وكذلك قوله: (وقد دخلوا)؛ (وهم قد خرجوا) ولذلك دخلت (قد) تقريباً للماضي في الحال. ولمعنى آخر: وهو أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار الله ما كتموه، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله: (قالوا آمنا) أي قالوا ذلك وهذه حالهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في {جاؤوكم} لليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم وخاصة للمنافقين. نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير، وقوله: {وهم} تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: {وهم قد خرجوا به} أي هم بأعيانهم، ثم فضحهم تعالى بقوله: {والله أعلم بما كانوا يكتمون} أي من الكفر.
الباء في قوله {دخلوا بالكفر وخرجوا به} يفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول والخروج من غير نقصان ولا تغيير فيه البتة...ذكر عند الدخول كلمة {قد} فقال {وقد دخلوا بالكفر} وذكر عند الخروج كلمة {هم} فقال: {وهم قد خرجوا به} قالوا: الفائدة في ذكر كلمة "قد "تقريب الماضي من الحال، والفائدة في ذكر كلمة "هم" التأكيد في إضافة الكفر إليهم، ونفي أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل، أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفرا، فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم...ثم قال تعالى: {والله اعلم بما كانوا يكتمون} والغرض منه المبالغة فيما في قلوبهم من الجد والاجتهاد في المكر بالمسلمين والكيد بهم والبغض والعداوة لهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} وهذه صفة المنافقين منهم، أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر؛ ولهذا قال: {وَقَدْ دَخَلُوا [بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ]} أي عندك يا محمد {بِالْكُفْرِ} أي: مستصحبين الكفر في قلوبهم، ثم خرجوا وهو كامن فيها، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر؛ ولهذا قال: {وَهُمْ [قَدْ] خَرَجُوا بِهِ} فخصهم به دون غيرهم.
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أي: والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك، وتزينوا بما ليس فيهم، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإذا جاءوكم} أي أيها المؤمنون! هؤلاء المنافقون من الفريقين، وإعادة ضمير الفريقين عليهم لأنهم في الحقيقة منهم، ما أفادتهم دعوى الإيمان شيئاً عند الله، والعدول إلى خطاب المؤمنين دال على عطفه على ما ذكرت، وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن القول، فلا يغتر بخداعهم ولا يسكن إلى مكرهم بما أعطى من صدق الفراسة وصحة التوسم {قالوا آمنا} أي لا تغتروا بمجرد قولهم الحسن الخالي عن البيان بما يناسبه من الأفعال فكيف بالمقترن بما ينفيه منها، وقد علم أن الفصل بين المتعاطفين بالآيتين السالفتين لا يضر، لكونهما علة للمعطوف عليه، فهما كالجزء منه.
ولما ادعوا الإيمان كذَّبهم سبحانه في دعواهم بقوله مقرباً لماضيهم من الحال رجاء لهم غير الدخول، لأنها تكاد تظهر ما هم مخفوه، فوجب التوقع للتصريح بها: {وقد} أي قالوا ذلك والحال أنهم قد {دخلوا} أي إليكم {بالكفر} مصاحبين له متلبسين به.
ولما كان المقام يقتضي لهم بعد الدخول حسن الحال، لما يرون من سمت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجليل وكلامه العذب ودينه العدل وهدية الحسن، فلم يتأثروا لما عندهم من الحسد الموجب للعناد، أخبر عن ذلك بأبلغ من الجملة التي أخبرت بكفرهم تأكيداً للأخبار عن ثباتهم على الكفر، لأنه أمر ينكره العاقل فقال: {وهم} أي من عند أنفسهم لسوء ضمائرهم وجبلاتهم من غير سبب من أحد منكم، لا منك ولا من أتباعك {قد خرجوا به} أي الكفر بعد دخولهم ورؤية ما رأوا من الخير، دالاً على قوة عنادهم بالجملة الاسمية المفيدة للثبات، وذكر المسند إليه مرتين، وهم بما أظهروا يظنون أنه يخفي ما أضمروا.
ولما كان في قلوبهم من الفساد والمكر بالإسلام وأهله ما يطول شرحه، نبه عليه بقوله: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال وبكل شيء علماً وقدرة {أعلم} أي منهم وممن توسم فيهم النفاق {بما كانوا} أي بما في جبلاتهم من الدواعي العظيمة للفساد {يكتمون} أي من هذا وغيره في جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ونكتة قوله (وهم قد خرجوا به) هي تأكيد كون حالهم في وقت الخروج كحالهم في وقت الدخول، وإنما احتاج هذا التأكيد لمجيئه على خلاف الأصل لأن من كان يجالس الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يسمع من العلم والحكمة ويرى من الفضائل ما يكبر في صدره ويؤثر في قلبه حتى إذا كان سيئ الظن رجع عن سوء ظنه – وأما سيء القصد فلا علاج له – وقد كان يجيئه الرجل يريد قتله، فإذا رآه وسمع كلامه آمن به وأحبه. وهذا هو المعقول الذي أيدته التجربة. وإنما شذ هؤلاء وأمثالهم، لأن سوء نيتهم وفساد طويتهم قد صرفا قلوبهم عن التذكر والاعتبار، ووجها كل قواهم إلى الكيد والخداع، والتجسس وما يراد به، فلم يبق لهم من الاستعداد ما يعقلون به تلك الآيات ويفقهون مغزى الحكم والآداب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... معنى قوله: {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به} أنّ الإيمان لم يخالط قلوبهم طَرْفَةَ عين، أي هم دخلوا كافرين وخرجوا كذلك، لشدّة قسوة قلوبهم، فالمقصود استغراق الزمنين وما بينهما، لأنّ ذلك هو المتعارف، إذ الحالة إذا تبدّلت استمرّ تبدّلها، ففي ذلك تسجيل الكذب في قولهم: آمنّا، والعرب تقول: خرج بغير الوَجه الذي دخل به.
وجاء سبحانه بأفعل التفضيل (أعلم) فكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إشراقات الله عليه وتنويره له كان يعلم أيضا أنهم منافقون. ولكن علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل إلى علم الحق سبحانه وتعالى فعلم الله ذاتي وعلم رسول فيض منه – سبحانه -. إذن فقوله الحق: {الله أعلم} لم يمنع أن هناك أناسا قد علموا أنهم منافقون. وقد استقر في ذهن النبي أنهم منافقون وأن الله أعلم بما كانوا يكتمون. والكتم هو حبس الإحساس النفسي أن يخرج وأن يظهر واضحا، ومحاولة الكتم عملية غير طبيعية لأنها قسرية. ويكاد كفرهم أن يظهر ويخرج فيحاولون أن يكتموه لأنهم يحرصون ألا ينكشفوا، ولكن علم الله لا تخفى عليه خافية.