التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَذَٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (12)

ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك من الآيات ما فيه تعزية وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما أصابه من سفهاء قومه ، فأخبره بأن ما أصابه منهم يشبه ما فعله المكذبون السابقون مع رسلهم ، فقال - تعالى - { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأولين وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } .

قال الجمل : " لما أساءوا في الأدب ، وخاطبوه صلى الله عليه وسلم خطاب السفاهة ، حيث قالوا له : { إنك لمجنون } ، سلاّه الله فقال له : إن عادة الجهال مع جميع الأنبياء كانت هكذا ، وكانوا يصبرون على أذى الجهال . ويستمرون على الدعوة والإِنذار ، فاقتد أنت بهم في ذلك . . . " .

والشيع جمع شيعة وهى الطائفة من الناس المتفقة على طريقة ومذهب واحد ، من شاعه إذا تبعه ، وأصله - كما يقول القرطبى - مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار .

والمعنى : ولقد أرسلنا من قبلك - أيها الرسول الكريم - رسلاً كثيرين ، في طوائف الأمم الأولين ، فدعا الرسل أقوامهم إلى ما دعوت إليه أنت قومك من وجوب إخلاص العبادة لله - تعالى - ، فما كان من أولئك المدعوين السابقين إلا أن قابلت كل فرقة منهم رسولها بالسخرية والاستهزاء ، كما قابلك سفهاء قومك .

وذلك لأن المكذبين في كل زمان ومكان يتشابهون في الطباع الذميمة ، وفى الأخلاق القبيحة : كمال قال - تعالى - { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } والجار والمجرور { من قبلك } متعلق بأرسلنا ، أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف . أى : ولقد أرسلنا رسلاً كائنة من قبلك .

وإضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند بعض النحاة ، أو من حذف الموصوف عند البعض الآخر ، أى شيع الأمم الأولين .

وعبر بقوله - سبحانه - { إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } للإِشعار بأن الاستهزاء بالرسل كان طبيعة فيهم - كما يومئ إليه لفظ كان ، وأنه متكرر منهم - كما يفيده التعبير بالفعل المضارع - والكاف في قوله { كذلك نسلكه . . } للتشبيه ، واسم الإِشارة { ذلك } يعود إلى السلك المأخوذ من نسلكه .

والسلك مصدر سلك - من باب نصر - وهو إدخال الشئ في الشئ ، كإدخال الخيط في المخيط .

والضمير المنصوب في { نسلكه } يعود إلى القرآن الكريم الذي سبق الحديث عنه .

والمراد بالمجرمين في قوله { فِي قُلُوبِ المجرمين } مشركو قريش ومن لف لفهم .

والمعنى : كما سلكنا كتب الرسل السابقين في قلوب أولئك المستهزئين نسلك القرآن في قلوب هؤلاء المجرمين من قومك يا محمد ، بأن نجعلهم يسمعونه ويفهمونه ويدركون خصائصه دون أن يستقر في قلوبهم استقرار تصديق وإذعان لاستيلاء الجحود والعناد والحسد عليهم .

وقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } بيان للسلك المشبه به ، أو حال من المجرمين .

أى : أدخلنا القرآن في قلوبهم ففهموه ، ولكنهم لا يؤمنون به عناداً وجحوداً .

وعلى هذا التفسير يكون الضمير في { نسلكه } وفى { به } يعودان إلى القرآن الكريم ، الذي سبق الحديث عنه في قوله - تعالى - { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .

ومن المفسرين الذين ذكروا هذا الوجه ولم يذكروا سواه صاحب الكشاف ، فقد قال : " والضمير في قوله { نسلكه } ، للذكر : أى : مثل ذلك السلك ونحوه نسلك الذكر { فِي قُلُوبِ المجرمين } على معنى أن يلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزءاً به غير مقبول ، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها : فقلت : كذلك أنزلها باللئام : تعنى مثل هذا الإِنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية .

ومحل قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } النصب على الحال ، أى : غير مؤمن به . أو هو بيان لقوله { كذلك نسلكه . . } .

وقد زكى هذا الوجه صاحب الانتصاف فقال : والمراد - والله أعلم - إقامة الحجة على المكذبين ، بأن الله - تعالى - سلك القرآن في قلوبهم ، وأدخله في سويدائها ، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين ، فكذب به هؤلاء ، وصدق به هؤلاء ، كل على علم وفهم { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ . . . } ولئلا يكون للكفار حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإِعجاز كما فهمها من آمن . . . " .

ويرى بعض المفسرين - كالإِمام ابن جرير - أن الضمير في نسلكه يعود إلى الكفر الذي سلكه الله في قلوب المكذبين السابقين ، أما الضمير في { به } فيعود إلى القرآن الكريم ، فقد قال : قوله - تعالى - { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ . . . }

يعنى : كما سلكنا الكفر في قلوب شيع الأولين بالاستهزاء بالرسل ، كذلك نفعل ذلك في قلوب مشركى قومك الذين أجرموا بسبب الكفر بالله .

{ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يقول : لا يصدقون بالذكر الذي أنزل إليك .

ومع أن هذا التفسير الذي ارتضاه شيخ المفسرين ابن جرير له وجاهته ، إلا أننا نميل إلى التفسير الأول الذي ارتضاه صاحب الكشاف ، لأنه هو المتبادر من معنى الآية ، ومن المفسرين الذين رجحوا ذلك الفخر الرازى ، فقد قال - رحمه الله - خلال كلام طويل ما ملخصه : " التأويل الصحيح أن الضمير في قوله - تعالى - { كذلك نسلكه } عائد إلى الذكر ، الذي هو القرآن ، فإنه - تعالى - قال قبل هذه الآية { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } وقال بعده { كذلك نسلكه } أى : هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين .

والمراد من هذا السلك ، هو أنه - تعالى - يسمعهم هذا القرآن ، ويخلق في قلوبهم حفظه والعلم بمعانيه . إلا أنهم مع هذه الأحوال لا يؤمنون به عناداً وجهلاً . .

ويدل على صحة هذا التأويل ، أن الضمير في قوله { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } عائد على القرآن بالإِجماع ، فوجب أن يكون الضمير في { نسلكه } عائداً إليه - أيضاً - لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد . . . .

وقوله - سبحانه - { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } تهديد لهؤلاء المكذبين من كفار مكة ومن سار على شاكلتهم ، وتكملة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

أى : وقد مضت سنة الله التي لا تتخلف وطريقته المألوفة بأن ينزل عذابه بالمجرمين ، كما أنزله بالأمم الماضية ، بسبب تكذيبها لرسلها ، واستهزائها بهم فلا تحزن - أيها الرسول الكريم - لما أصابك من سفهاء قومك فسننصرك عليهم .

وأضاف - سبحانه - السنة إلى الأولين ، باعتبار تعلقها بهم ، وإنما هي سنة الله فيهم لأنها المقصود هنا ، والإِضافة لأدنى ملابسة .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{كَذَٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (12)

{ كذلك نسلُكه } ندخله . { في قلوب المجرمين } والسلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط ، والرمح في المطعون والضمير للاستهزاء . وفيه دليل على أن الله تعالى يوجد الباطل في قلوبهم . وقيل ل { الذكر } فإن الضمير الآخر في قوله : { لا يؤمنون به } له وهو خال من هذا الضمير ، والمعنى مثل ذلك السلك نسلك الذكر في قلوب المجرمين مكذبا غير مؤمن به ، أو بيان للجملة المتضمنه له ، وهذا الاحتجاج ضعيف إذ لا يلزم من تعاقب الضمائر توافقها في المرجوع إليه ولا يتعين أن تكون الجملة حالا من الضمير لجواز أن تكون حالا من المجرمين ، ولا ينافي كونها مفسرة للمعنى الأول بل يقويه . { وقد خلت سنّة الأولين } أي سنة الله فيهم بأن خذلهم وسلك الكفر في قلوبهم ، أو بإهلاك من كذب الرسل منهم فيكون وعيدا لأهل مكة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كَذَٰلِكَ نَسۡلُكُهُۥ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (12)

يحتمل أن يكون الضمير في { نسلكه } يعود على الاستهزاء والشرك ونحوه - وهو قول الحسن وقتادة وابن جرير وابن زيد - ويكون الضمير في { به } يعود أيضاً على ذلك بعينه ، وتكون باء السبب ، أي لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم ، ويكون قوله : { لا يؤمنون به } في موضع الحال .

ويحتمل أن يكون الضمير في { نسلكه } عائداً على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر وهو القرآن ، أي مكذباً به مردوداً مستهزأ به ندخله في قلوب المجرمين ، ويكون الضمير في { به } عائداً عليه أيضاً أي لا يصدقون به .

ويحتمل أن يكون الضمير في { نسلكه } عائداً على الاستهزاء والشرك ، والضمير في { به } يعود على القرآن ، فيختلف - على هذا - عود الضميرين .

والمعنى في ذلك كله ينظر بعضه إلى بعض .

و { نسلكه } معناه : ندخله ، يقال : سلكت الرجل في الأمر ، أي أدخلته فيه ، ومن هذا قول الشاعر [ عدي بن زيد ] : [ الوافر ] .

وكنت لزاز خصمك لم أعرد . . . وقد سلكوك في يوم عصيب{[7136]}

ومنه قول الآخر [ عبد مناف بن ربع الهذلي ] : [ البسيط ]

حتى إذا سلكوهم في قتايدة . . . شلاكما تطرد الجمالة الشردا{[7137]}

ومنه قول أبي وجزة يصف حمر وحش : [ البسيط ]

حتى سلكن الشوى منهن في مسك . . . من نسل جوابة الآفاق مهداج{[7138]}

قال الزجاج : ويقرأ : «نُسلِكه » بضم النون وكسر اللام ، و { المجرمين } في هذه الآية يراد بهم كفار قريش ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم .


[7136]:البيت لعدي بن زيد العبادي، وقد سبق أن استشهد به ابن عطية في تفسير سورة هود، عند قوله تعالى: {وقال هذا يوم عصيب}، وقد ذكره في اللسان شاهدا على أن السلك بالفتح هو مصدر سلكت الشيء في الشيء فانسلك، أي: أدخلته فيه فدخل. ولزاز خصم معناه: مقارنه و ملتصق به لا أفارقه مع القدرة عليه. ولم أعرد: لم أحجم و لم أفر من المعركة.
[7137]:البيت لعبد مناف بن ربع الهذلي، وهو في (اللسان ـ جمل وسلك)، وهو هنا شاهد على أن أسلك بالهمزة في أوله مثل سلك التي في بيت عدي بن زيد، وهو أيضا في خزانة الأدب شاهدا على أن جواب إذا محذوف، و التقدير: بلغوا أملهم، وهذا هو رأي الرضي شارح كافية ابن الحاجب، وقال البغدادي أيضا: إن أسلك لغة في سلك، يقال: أسلكت الشيء في الشيء، مثل سلكته فيه، بمعنى أدخلته فيه، فهو من رأي ابن عطية، و كذلك الطبري من رأيهما، وقتائدة: جبل بين المنصرف والروحاء، قال ذلك البكري، وقيل: هي ثنية، والشل: الطرد، والجمالة: أصحاب الجمال، وهي في الوزن مثل الحمارة لأصحاب الحمير، وهي فاعل للفعل تطرد، والشرد: جمع شرود، يريد: من الجمال.
[7138]:البيت لأبي وجزة، قال صاحب (اللسان ـ مسك) بعد أن ذكر أن المسك أسورة من ذبل أو عاج: "واستعاره أبو وجزة فجعل ما تدخل فيه الأتن أرجلها من الماء مسكا فقال: حتى سلكن..... البيت"ز وفي التهذيب: "المسك الدبل من العاج كهيئة السوار تجعله المرأة في يديها، فذلك المسلك، والذبل: القرون". والشوى: القوائم. وقيل: هي اليدان والرجلان، والمراد واحد. وجاب يجوب جوبا: قطع وخرق، ورجل جواب: معتاد لذلك إذا كان قطاعا للبلاد سيارا فيها، والمهداج: العطوف الحنون على ولدها، يقول: إن هذه الحمر أدخلت قوائمها أو أرجلها فيما يشبه المسك من الماء، ثم جعل ذلك الماء من نسل ريح تجوب البلاد، فجعل الماء للريح كالولد لأن الريح حملته.