ووصف - سبحانه - نبيه موسى بالكرم ، على سبيل التشريف له ، والإعلاء من قدره ، فقد كان - عليه السلام - كليما لربه ، ومطيعا لأمره ، ومتحليا بأسمى الأخلاق وأفضلها .
و { أَنْ } فى قوله - تعالى - { أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله } مفسرة لأن مجئ الرسول إليهم يتضمن معنى القول . وقوله : { أدوا إِلَيَّ } بمعنى سلموا إلى ، أو ضموا إلى . .
قوله : { عِبَادَ الله } مفعول به . والمراد بهم بنو إسرائيل .
والمعنى : جاء إلى فرعون وقومه رسول كريم ، هو موسى - عليه السلام - ، فقال لهم : سلموا إلى نبى إسرائيل ، وأطلقوهم من الذل والهوان ، واتركوهم يعيشون أحرارا فى هذه الدنيا .
ويؤيد هذا المعنى قوله - تعالى - فى موضع آخر : { فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ . . } ويصح أن يكون المراد بقوله { أَنْ أدوا إِلَيَّ } بمعنى : أن استجيبوا لدعوتى ، والمراد بالعباد : ما يشمل بنى إسرائيل وغيرهم ، ويكون لفظ { عِبَادَ الله } منصوب بحرف نداء محذوف .
وعليه يكون المعنى : أرسلنا إلى فرعون وقومه رسولا كريما ، فجاء إليهم وقال لهم على سبيل النصح والإِرشاد ، يا عباد الله ، إنى رسول الله إليكم ، فاستمعوا إلى قولى ، واتبعوا ما أدعوكم إليه من عبادة الله - تعالى - وحده ، وترك عبادة غيره .
قال الآلوسى : قوله : { أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله . . . } اى : أطلقوهم وسلموا إلى ، والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون يستعبدهم ، والتعبير عنهم بعباد الله ، للإِشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه لهم . .
أو أدوا إلى حق الله - تعالى - من الإِيمان وقبول الدعوة يا عباد الله ، على أن مفعول { أدوا } محذوف ، وعباد منادى ، وهو عام لبنى إسرائيل والقبض والأداء بمعنى الفعل للطاعة - وقبول الدعوة .
وقوله - سبحانه - : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } تعليل لما تقدم . أى : استجيبوا لدعوتى ، وأطيعوا أمرى ، فإنى مرسل من الله - تعالى إليكم ، وأمين على الرسالة ، لأنى لم أبدل شيئا مما كلفنى به ربى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قال موسى لفرعون: {أن أدوا إلي عباد الله} يعني أرسلوا معي بني إسرائيل، يقول وخل سبيلهم، فإنهم أحرار ولا تستعبدهم.
{إني لكم رسول} من الله، {أمين} فيما بيني وبين ربكم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"أن أدّوا إليّ عِبادَ اللّهِ": وجاء قوم فرعون رسول من الله كريم عليه بأن ادفعوا إليّ، ومعنى «أدوا»: ادفعوا إليّ فأرسلوا معي واتبعونِ، وهو نحو قوله: "أنْ أرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إسْرَائِيلَ"... وقد تأوله قوم: أن أدّوا إليّ يا عباد الله...
"إنّي لَكُمْ رَسُولٌ أمِينٌ": إني لكم أيها القوم رسول من الله أرسلني إليكم لا يدرككم بأسه على كفركم به.
"أمين": أمين على وحيه ورسالته التي أوعدنيها إليكم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل: أرسلوا معي بني إسرائيل فإنهم يرغبون في إجابتي إلى ما أدعوهم إليه، ويطمعون في اتّباعي في ما آمرهم به.
{إني لكم رسول أمين} يحتمل أن يقول: إني كنت أمينا في ما بينكم، لا يظهر لكم مني خيانة، ولا اطّلعتم على الكذب قطّ. فلماذا تُكذّبونني، وتنسبونني إلى السحر؟
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} فيه ثلاثة أوجه:
الثاني: أجيبوا عباد الله خيراً، قاله أبو صالح.
الثالث: أدوا إليَّ يا عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله، وهذا محتمل.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} يحتمل وجهين: الثاني: أمين على ما أستأديه منكم فلا أخون فيه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... والظاهر من شرع موسى عليه السلام أنه بعث إلى دعاء فرعون إلى الإيمان وأن يرسل بني إسرائيل، فلما أبى أن يؤمن، ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل، وفي إرسالهم هو قوله: {أن أدوا إلى عباد الله} أي بني إسرائيل، ويقوي ذلك قوله بعد: {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} [الدخان: 21]، وهذا قريب نص في أنه إنما يطلب بني إسرائيل فقط، ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى {فاسر بعبادي} فيظهر أنه إياهم أراد موسى بقوله: {عباد الله}.
{أن أدوا إلي عباد الله} وفي أن قولان:
(الأول) أنها أن المفسرة وذلك لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول؛ لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله.
(الثاني) أنها المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدواء، وعباد الله مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول أدوهم إلي وأرسلوهم معي وهو كقوله {فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم} ويجوز أيضا أن يكون نداء لهم والتقدير: أدوا إلى عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان، وقبول دعوتي، واتباع سبيلي، وعلل ذلك بأنه {رسول أمين}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر بمجيئه إليهم بالرسالة التي لا تكون إلا بالقول، فسر ما بلغهم منها بقوله:
{أن أدوا} أي أوصلوا مع البشر وطيب النفس، وأبرز ذلك في صيغة الأمر الذي لا يسوغ مخالفته ولما كان بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين تصرفه في قومه حائل كثيف من ظلم فرعون وقومه، أشار [إليه-] بحرف الغاية فقال: {إليّ} ونبهه على أنه لا حكم له عليهم بقوله {عباد الله} أي بني إسرائيل الذين استعبدتموهم ظلماً وليست عليهم عبودية إلا للذي أظهر في أمورهم صفات جلاله وجماله بما صنع مع آبائهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده وما سيظهر مما ترونه وما يكون بعدكم.
ولما كان لهم به من النفع إن تبعوا ما جاءهم به والضر إن ردوه ما ليس لغيرهم، وكان لا يقدر على تأدية بني إسرائيل إليه من أهل الأرض غيرهم لاحتوائهم عليهم كان تقديم الجار في أحكم مواضعه فلذلك قال مؤكداً لإنكارهم لرسالته عليه الصلاة والسلام: {إني لكم} أي خاصة بسبب ذلك {رسول} أي [من-] عند من لا تكون الرسالة الكاملة إلا منه.
ولما كان الإنسان لا يأتمن على السياسة إلا ثقة كافياً، قال واصفاً لنفسه [بما-] يزيل عذرهم ويقيم الحجة عليهم: {أمين *} أي بالغ الأمانة لأن الملك الديان لا يرسل إلا من كان كذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها كلمات قصيرة تلك التي جاءهم بها رسولهم الكريم -موسى عليه السلام: إنه يطلب إليهم الاستجابة الكلية والأداء الكامل والاستسلام المطلق، الاستسلام المطلق لله الذي هم عباده...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{أن أدوا إلي عباد الله} تفسير لما تضمنه وصف {رَسول} وفعل {جاءهم} من معنى الرسالة والتبليغ ففيهما معنى القول. ومعنى {أدوا إلي} أرْجعوا إلي وأعطوا قال تعالى: {وَمِنْهُمْ من إن تأمَنْه بدينار لا يُؤدِه إليك} [آل عمران: 75]، يقال: أدَّى الشيء أوصله وأبلغه. وهمزة الفعل أصلية وهو مضاعف العين ولم يسمع منه فِعل سالم غير مضاعف، جَعل بني إسرائيل كالأمانة عند فرعون على طريقة الاستعارة المكنية.
وخطاب الجمع لقوم فرعون، والمرادُ: فرعون ومن حضر من ملئه لعلهم يشيرون على فرعون بالحق ولعله إنما خاطب مجموع الملإ لمّا رأى من فرعون صلفاً وتكبراً من الامتثال، فخطاب أهل مشورته لعل فيهم من يتبصر الحق.
{عباد الله} يجوز أن يكون مفعول {أدوا} مراداً به بنو إسرائيل، أجري وصفهم {عباد الله} تذكيراً لفرعون بموجب رفع الاستعباد عنهم، وجاء في سورة الشعراء (17) {أن أرسل معنا بني إسرائيل} فحصل أنّه وصفهم بالوصفين، فوصف {عباد الله} مبطل لحسبان القبط إياهم عَبيداً كما قال: {وقومُهُما لنا عابدون} [المؤمنون: 47] وإنما هم عباد الله، أي أحرار فعباد الله كناية عن الحرية.
ويجوز أن يكون مفعول فعل {أدوا} محذوفاً يدل عليه المقام، أي أدّوا إليَّ الطاعةَ ويكون {عباد الله} منادى بحذف حرف النداء.
{إني لكم رسول أمين} تقديم {لكم} على {رسول}؛ للاهتمام بتعلق الإرسال بأنه لهم ابتداءً بأن يعطوه بني إسرائيل؛ لأن ذلك وسيلة للمقصود من إرساله لتحرير أمة إسرائيل والتشريعِ لها، وليس قوله: {لكم} خطاباً لبني إسرائيل فإن موسى قد أبلغ إلى بني إسرائيل رسالتَه مع التبليغ إلى فرعون قال تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذريةٌ من قومه على خوفٍ من فرعون وملائهم أن يفتنهم} [يونس: 83]، وليكون امتناع فرعون من تسريح بني إسرائيل مبرراً لانسلاخ بني إسرائيل عن طاعة فرعون وفرارهم من بلاده.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
خاطبهم موسى عليه السلام بأُسلوبه المؤدب جدّاً، المليء بالود والمحبة، فقال: (أن أدوا إليّ عباد الله).
وطبقاً لهذا التّفسير، فإنّ (عباد الله) بحكم المخاطب، والمراد منهم الفراعنة، وبالرغم من أنّ هذا التعبير يستعمل في آيات القرآن في شأن العباد الصالحين، إلا أنّه أطلق أيضاً في موارد عديدة على الكفار والمجرمين، من أجل تحريك وجدانهم، وجذب قلوبهم نحو الحق.
بناء على هذا، فإنّ المراد من (أدّوا) إطاعة أمر الله سبحانه وتنفيذ أوامره.