وبعد أن ساق - سبحانه - هذا الجانب من قصة موسى - عليه السلام - ، أتبع ذلك بالحديث عن جانب من النعم التى أنعم بها على نبيين كريمين من أنبيائه ، وهما داود وسليمان - عليهما السلام - فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ . . . } .
قوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } كلام مستأنف مسوق لتقرير قوله - تعالى - : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } إذ القرآن الكريم هو الذى قص الله - تعالى - فيه أخبار السابقين ، بالصدق والحق .
وداود هو ابن يسى ، من سبط يهوذا من بنى إسرائيل ، وكانت ولادته فى بيت لحم سنة 1085 ق . م - تقريباً - ، وهو الذى قتل جالوت ، كما قال - تعالى - : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ . . } وكانت وفاته سنة 1000 ق . م تقريباً .
وسليمان هو ابن داود - عليهما السلام - ولد بأورشليم حوالى سنة 1043 ق . م وتوفى سنة 975 ق . م .
وقد جاء ذكرهما فى سورتى الأنبياء وسبأ وغيرهما .
ويعتبر عهدهما أزهى عهود بنى إسرائيل ، فقد أعطاهما الله - تعالى - نعما جليلة .
والمعنى : والله لقد أعطينا داود وابنه سليمان علما واسعا من عندنا ، ومنحناهما بفضلنا وإحساننا معرفة غزيرة بعلوم الدين والدنيا .
أما داود فقد أعطاه - سبحانه - علم الزبور ، فكان يقرؤه بصوت جميل ، كما علمه صناعة الدروع . . قال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } وأما سليمان فقد آتاه - سبحانه - ملكا لا ينبغى لأحد من بعده ، وعلمه منطق الطير ، ورزق الحكم السديد بين الناس . قال - تعالى - : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } وقوله - سبحانه - { وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } بيان لموقفهما من نعم الله - تعالى - عليهما ، وهو موقف يدل على حسن شكرهما لخالقهما .
والواو فى قوله { وَقَالاَ } للعطف على محذوف ، أى : آتيناهما علما غزيراً فعملا بمقتضاه وشكرا الله عليه ، وقالا : الحمد لله الذى فضلنا بسبب ما آتانا من علم ونعم ، على كثير من عباده المؤمنين ، الذين لم ينالوا ما نلنا من خيره وبره - سبحانه - .
قال صاحب الكشاف : " وفى الآية دليل على شرف العلم ، وإنافة محله . وتقدم حَمَلَتهِ وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم ، وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أونى فضلاً على كثير من عباد الله . . " .
وفى التعبير بقوله - تعالى - : { فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ . . } دلالة على حسن أدبهما ، وتواضعهما ، حيث لم يقولا فضلنا على جميع عباده .
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان ، عليهما من الله السلام ، من النعم الجزيلة ، والمواهب الجليلة ، والصفات الجميلة ، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة ، والملك والتمكين التام في الدنيا ، والنبوة والرسالة في الدين ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } .
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام{[21980]} : أخبرني أبي ، عن جدي قال : كتب عمر بن عبد العزيز : إن الله لم ينعم على عَبد نعمة فحمد الله عليها ، إلا كان حَمْدُه أفضل من نعمته{[21981]} ، لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل ؛ قال الله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ } ، وأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان ، عليهما السلام ؟
كما كان في قصة موسى وإرساله إلى فرعون آياتٌ عبرةٌ ومَثَل للذين جحدوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في قصة سليمان وملكة سبأ وما رأته من آياته وإيمانها به مثَلٌ لعلم النبي صلى الله عليه وسلم وإظهارٌ لفضيلة ملكةِ سبأ إذ لم يصدها مُلكُها عن الاعتراف بآيات سليمان فآمنت به ، وفي ذلك مَثَل للذين اهتدَوْا من المؤمنين .
وتقديم ذكر داود ليبْنى عليه ذكر سليمان إذ كان ملكه ورثه من أبيه داود . ولأن في ذكر داود مثل لإفاضة الحكمة على من لم يكن متصدياً لها . وما كان من أهل العلم بالكتاب أيامَ كان فيهم أحبارٌ وعلماء ؛ فقد كان داود راعياً غَنَم أبيه ( يسِّي ) في بيت لحم فأمر الله شمويل النبيءَ أن يجعل داود نبيئاً في مدة ملك طالوت ( شاول ) . فما كان عجب في نبوءة محمد الأمي بين الأميين ليعلم المشركون أن الله أعطى الحكمة والنبوءة محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يكن يعلم ذلك من قبلُ ولكن في قومه من يعلم ذلك كما قال تعالى : { ما كنتَ تعلمُها أنتَ ولا قومُك من قبل هذا } [ هود : 49 ] ، فهذه القصة تتصل بقوله تعالى : { وإنك لَتُلَقّى القرآن من لدن حكيم عليم } [ النمل : 6 ] .
فيصح أن تكون جملة : { ولقد آتينا داود } معطوفاً على { إذ قال موسى لأهله } [ النمل : 7 ] إذا جعلنا ( إذ ) مفعولاً لفعل ( اذكر ) محذوف .
ويصح أن تكون الواو للاستئناف فالجملة مستأنفة . ومناسبة الذكر ظاهرة . وبعدُ ففي كل قصة من قصص القرآن علم وعبرة وأسوة .
وافتتاح الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين به منزلة من يتردد في ذلك لأنهم جحدوا نبوءة مثللِ داود وسليمان إذ قالوا : { لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } [ سبأ : 31 ] .
وتنكير { علماً } للتعظيم لأنه علم بنبوءة وحكمة كقوله في صاحب موسى { وعلّمناه من لدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] .
وفي فعل { آتينا } ما يؤذن بأنه علم مفاض من عند الله ، لأن الإيتاءَ أخصّ من { علّمناه } فلذلك استغني هنا عن كلمة ( من لدنّا ) .
وحكاية قولهما { الحمد لله الذي فضلنا } كناية عن تفضيلهما بفضائل غير العلم . ألاَ ترى إلى قوله : { على كثير من عباده المؤمنين } ومنهم أهلُ العلم وغيرهم ، وتنويه بأنهما شاكران نعمته .
ولأجل ذلك عطف قولهما هذا بالواو دُون الفاء لأنه ليس حمداً لمجرد الشكر على إيتاءِ العلم .
والظاهر أن حكاية قوليهما وقعت بالمعنى ، بأن قال كل واحد منهما : الحمد لله الذي فضلني ، فلما حكي القولان جمع ضمير المتكلم ، ويجوز أن يكون كل واحد شكر الله على منحه ومنححِ قريبه ، على أنه يكثر استعمال ضمير المتكلم المشارَك لا لقصد التعظيم بل لإخفاء المتكلم نفسه بقدر الإمكان تواضعاً كما قال سليمان عقب هذا { عُلِّمنا منطقَ الطير وأوتينا من كل شيء } [ النمل : 16 ] . وجعلا تفضيلهما على كثير من المؤمنين دون جميع المؤمنين ؛ إمَّا لأنهما أرادا بالعباد المؤمنين كلّ مَن ثبت له هذا الوصف من الماضين وفيهم موسى وهارون ، وكثير من الأفضل والمُساوي ، وإمّا لأنهما اقتصدا في العبارة إذ لم يحيطا بمن ناله التفضيل ، وإما لأنهما أرادا بالعباد أهلَ عصرهما فعبَّرا ب { كثير من عباده } تواضعاً لله . ثم إن كان قولهما هذا جهراً وهو الظاهر كان حجة عَلى أنه يجوز للعالم أن يذكر مرتبته في العلم لفوائد شرعية ترجع إلى أن يَحْذر الناس من الاغترار بمن ليست له أهلية من أهل الدعوى الكاذبة والجعجعة الجالبة ، وهذا حكم يستنبط من الآية لأن شرع من قبلنا شرع لنا ، وإن قالاه في سرهما لم يكن فيه هذه الحجة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.