ثم صور - سبحانه - حال هذا الشقى تصويرا بديعا يثير السخرية منه ومن تفكيره فقال : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } أى : إن هذا الشقى ردد فكره وأدراه فى ذهنه ، وقدَّر وهيأ فى نفسه كلاما شنيعا يقوله فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفى حق القرآن الكريم .
يقال : قدَّر فلان الشئ فى نفسه ، إذا هيأه وأعده . .
والجملة الكريمة تعليل للوعيد والزجر ، وتقرير لاستحقاقه له ، أو بيان لمظاهر عناده . .
وقوله تعالى مخبراً عن الوليد { إنه فكر وقدر } الآية ، روى جمهور المفسرين أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام ، ودخل إلى أبي بكر الصديق مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ، فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن ، وقال : افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن ، فقال : أقول شعر ما هو بشعر ، أقول هو كاهن ؟ ما هو بكاهن ، أقول هو { سحر يؤثر } هو قول البشر{[11424]} ، أي لبس منزل من عند الله قال أكثر المفسرين .
فقوله تعالى : { فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر } هو دعاء عليه وتقبيح لحاله أي أنه ممن يستحق ذلك .
وروي عن الزهري وجماعة غيره أو الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : والله إن له لحلاوة وإن أصله لعذق{[11424]} وإن فرعه لجناة{[2]} وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى ونحو هذا من الكلام فخالفوه فقالوا له : هو شعر ، فقال والله ما هو بشعر ، ولقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه{[3]} ، قالوا : فهو كاهن ، قال والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان وزمزمتهم{[4]} ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، ولقد رأينا المجنون وخنقه{[5]} ، قالوا : هو سحر ، قال أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه{[6]} .
قال القاضي أبو محمد : فيحتمل قوله تعالى : { فقتل كيف قدر } أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله ، ويحتمل أن يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه{[7]} الأول ومدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه فيجري هذا مجرى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل بن سهيل : «ويل أمه مسعر حرب »{[8]} ، ومجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً كأنه رآنا حين قال كذا{[9]} ، وهذا معنى مشهور في كلام العرب .
وجملة { إنه فكر وقدر } إلى آخرها بدل من جملة { إنه كان لآياتنا عنيداً } [ المدثر : 16 ] بدل اشتمال .
وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف . فابتدىء بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره .
ومعنى { فكّر } أعمل فكره وكرّر نظر رأيه ليبتكر عذراً يموهه ويروّجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم
و { قَدَّر } جعل قَدْراً لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما يُنحله القرآنَ من أنواع كلام البشر أو ما يَسِم به النبي صلى الله عليه وسلم من الناس المخالفةِ أحوالهم للأحوال المعتادة في الناس مثال ذلك أن يقول في نفسه ، نقول : محمد مجنون ، ثم يقول : المجنون يُخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك ، ، ثم يقول في نفسه : هو شاعر ، فيقول في نفسه : لقد عرفتُ الشّعر وسمعت كلام الشّعراء فما يشبه كلام محمّد كلام الشّاعر ، ثم يقول في نفسه : كاهن ، فيقول في نفسه : ما كلامه بزمزمة كاهن ولا بسجعه ، ثم يقول في نفسه : نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، فقال للناس : نقول إنه ساحر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال، يعني الوليد بن المغيرة: {إنه فكر} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فزعم أنه ساحر، وقال مثل ما قال في التقديم.
{وقدر} في قوله: إن محمدا يفرق بين الاثنين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي خلقته وحيدا، فكّر فيما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن، وقدّر فيما يقول فيه.
عن عكرِمة، أن الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فقال: أي عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لِمَ؟ قال: يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما قِبَله قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يعلم قومك أنّك مُنكر لما قال، وأنك كاره له، قال: فما أقول فيه، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه مني، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى. قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكّر، قال: هذا سحر يؤثره عن غيره، فنزلت" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا... "حتى بلغ "تسعة عشر".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إن فراعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقدوا معاندة الحق، واعتقدوا صدّ الناس عن سبيل الله بأن يطفئوا نوره، فأرادوا أن يجمعوا على أمر، ينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه ينفون عن أنفسهم سمة الجهل وتهمة الكذب في ذلك على ما ذكروا أن الوليد جمع أصحابه، فقال: إن هذه أيام الموسم، وإن الناس سائلوكم عن هذا الرجل، فماذا تقولون؟. فقال بعضهم: نقول: هو شاعر، فقال: إنهم قد سمعوا الشعر، وما قوله بقول شعر. وقال بعضهم: نقول: هو كاهن، فقال: إن الكهانة معروفة عند العرب، وإذا سمعوا قوله عرفوا أنه ليس بكاهن، فيكذبونكم. وقال بعضهم: نقول: هو كذاب، فقال: إنا قد اختبرناه فما أخذنا عليه كذبة قطّ. فقال بعضهم: نقول: هو مجنون، فقال: إذا نظروا إليه علموا أنه ليس بمجنون، فأعياهم ففكر في نفسه، وقدّر {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} [المدثر: 24] ما هذا الذي أتى به إلا سحر آثره عن غيره، أي يرويه، فاتفقت كلمتهم على تسميته ساحرا، وقالوا: الساحر يفرق بين اثنين، وقد وجد منه التفريق بين الآباء والأولاد وبين ذوي الأرحام رجاء أن يصلوا إلى مرادهم من صد الناس عن سبيل الله تعالى وإطفاء نوره مكرا منهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّهُ فَكَّرَ} تعليل للوعيد، كأن الله تعالى عاجله بالفقر بعد الغنى، والذل بعد العز في الدنيا بعناده، ويعاقبه في الآخرة بأشدّ العذاب وأفظعه لبلوغه بالعناد غايته وأقصاه في تفكيره، وتسميته القرآن سحراً.
ويجوز أن تكون كلمة الردع متبوعة بقوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} ردّاً لزعمه أن الجنة لم تخلق إلا له؛ وإخباراً بأنه من أشدّ أهل النار عذاباً، ويعلل ذلك بعناده، ويكون قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ} بدلاً من قوله: {إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً} بياناً لِكُنْهِ عناده. ومعناه {فكر} ماذا يقول في القرآن {وَقَدَّرَ} في نفسه ما يقول وهيأه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يرسم تلك الصورة المبدعة المثيرة للسخرية والرجل يكد ذهنه! ويعصر أعصابه! ويقبض جبينه! وتكلح ملامحه وقسماته.. كل ذلك ليجد عيبا يعيب به هذا القرآن، وليجد قولا يقوله فيه:
(إنه فكر وقدر. فقتل! كيف قدر؟ثم قتل! كيف قدر؟ ثم نظر. ثم عبس وبسر. ثم أدبر واستكبر. فقال: إن هذا إلا سحر يؤثر. إن هذا إلا قول البشر).
لمحة لمحة. وخطرة خطرة. وحركة حركة. يرسمها التعبير، كما لو كانت ريشة تصور، لا كلمات تعبر، بل كما لو كانت فيلما متحركا يلتقط المشهد لمحة لمحة!
لقطة وهو يفكر ويدبر ومعها دعوة هي قضاء (فقتل!) واستنكار كله استهزاء (كيف قدر؟) ثم تكرار الدعوة والاستنكار لزيادة الإيحاء بالتكرار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف. فابتدئ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره.
ومعنى {فكّر} أعمل فكره وكرّر نظر رأيه ليبتكر عذراً يموهه ويروّجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
و {قَدَّر} جعل قَدْراً لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما يُنحله القرآنَ من أنواع كلام البشر أو ما يَسِم به النبي صلى الله عليه وسلم من الناس المخالفةِ أحوالهم للأحوال المعتادة في الناس مثال ذلك أن يقول في نفسه، نقول: محمد مجنون، ثم يقول: المجنون يُخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك،، ثم يقول في نفسه: هو شاعر، فيقول في نفسه: لقد عرفتُ الشّعر وسمعت كلام الشّعراء فما يشبه كلام محمّد كلام الشّاعر، ثم يقول في نفسه: كاهن، فيقول في نفسه: ما كلامه بزمزمة كاهن ولا بسجعه، ثم يقول في نفسه: نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فقال للناس: نقول إنه ساحر.