التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ} (4)

وقوله - تعالى - : { الذى عَلَّمَ بالقلم } أي : علم الإنسان الكتابة بالقلم ، ولم يكن له علم بها ، فاستطاع عن طريقها أن يتفاهم مع غيره ، وأن يضبط العلوم والمعارف ، وأن يعرف أخبار الماضين وأحوالهم ، وأن يتخاطب بها مع الذين بينه وبينهم المسافات الطويلة .

ومفعولا " علَّم " محذوفان ، دل عليهما قوله { بالقلم } أي : علم ناسا الكتابة بالقلم . وتخصيص هذه الصفة بالذكر للإِيماء إلى إزالة ما قد يخطر بباله صلى الله عليه وسلم من تعذر القراءة بالنسبة له ، لجهله بالكتابة ، فكأنه - تعالى - يقول له : إن من علم غيرك القراءة والكتابة بالقلم ، قادر على تعليمك القراءة وأنت لا تعرف الكتابة ، ليكون ذلك من معجزاتك الدالة على صدقك ، وكفاك بالعلم فى الأمة معجزة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ} (4)

قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح . ثم حُبب إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه - وهو : التعبد - الليالي ذواتَ العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد{[30233]} لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ " . قال : " فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت : ما أنا بقارئ . فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } حتى بلغ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } قال : فرجع بها تَرجُف بَوادره{[30234]} حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " . فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع . فقال : يا خديجة ، ما لي : فأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت علي " . فقالت له : كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا ؛ إنك لتصل الرحم ، وتصدُق الحديث ، وتحمل الكَلَّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصي - وهو ابن عم خديجة ، أخي أبيها ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل{[30235]} ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ - فقالت خديجة : أيّ ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فقال ورقة : ابنَ أخي ، ما ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى{[30236]} ليتني{[30237]} فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أومخرجيَّ هُم ؟ " . فقال ورقة : نعم ، لم يأت رجل قط بما جئت به{[30238]} إلا عودي ، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا . [ ثم ] {[30239]} لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي ، وفَتَر الوحي فترة حتى حَزن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنًا غدا منه مرارا كي يَتَردى من رؤوس شَوَاهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ، إنك رسولُ الله حقًا . فيسكن بذلك جأشه ، وتَقَرُّ نفسه فيرجع . فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة الجبل تَبَدى له جبريل ، فقال له مثل ذلك .

وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري{[30240]} وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ، ولله الحمد والمنة .

فأول شيء [ نزل ]{[30241]} من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات{[30242]} وهُنَّ أول رحمة رَحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم . وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كَرَمه تعالى أن عَلّم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ولفظي ورسمي ، والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وفي الأثر : قيدوا العلم بالكتابة{[30243]} . وفيه أيضا : " من عمل بما علم رزقه{[30244]} الله علم ما لم يكن [ يعلم ]{[30245]} .


[30233]:- (1) في م، أ: "فتزوده".
[30234]:- (2) في أ: "يرجف فؤاده".
[30235]:- (3) في م ،: "وكتب من الإنجيل بالعربية".
[30236]:- (4) في أ: "على عيسى".
[30237]:- (5) في م: "يا ليتني".
[30238]:- (6) في أ: "بمثل ما جئت به".
[30239]:- (7) زيادة من م، أ، والمسند.
[30240]:- (1) المسند (6/232) وصحيح البخاري برقم (3، 4، 4953، 6982، 4955، 3392) وصحيح مسلم برقم (160).
[30241]:- (2) زيادة من م، أ.
[30242]:- (3) في م: "المباركة".
[30243]:- (4) جاء عن عمر - رضي الله عنه - موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن أبي شيبة في المصنف (9/49) والدارمي في السنن برقم (503). وعن أنس موقوفا، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص368)، وجاء مرفوعا من حديث أنس، رواه الخطيب في تقييد العلم (ص 70) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص 368). ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رواه الحاكم في المستدرك (1/106) وابن عبد البر في جمع بيان العلم (1/73) والموقوف أصح.
[30244]:- (5) في م: "أورثه".
[30245]:- (6) زيادة من م، أ.

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ} (4)

ثم عدد تعالى نعمة الكتاب { بالقلم } على الناس ، وهي موضع عبرة وأعظم منفعة في المخاطبات وتخليد المعارف .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ} (4)

والقلم : شَظيَّة من قصب ترقق وتثقّف وتبرى بالسكينِ لتكون ملساء بين الأصابع ويجعلُ طرفها مشقوقاً شقاً في طول نصف الأنملة ، فإذا بلّ ذلك الطرف بسائل المداد يخُط به على الورق وشبهه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } في سورة آل عمران ( 44 ) .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ} (4)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله : "اقْرأْ وَرَبّكَ الأكْرَمُ" يقول : اقرأ يا محمد وربك الأكرم "الّذِي عَلّمَ بِالقَلَمِ" : خَلْقَه الكتاب والخط ... عن قتادة ( اقْرأْ باسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ ) قرأ حتى بلغ عَلّمَ بِالقَلَمِ قال : القلم : نعمة من الله عظيمة ، لولا ذلك لم يقم ، ولم يصلح عيش .

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قوله تعالى : { علم بالقلم } { علم الإنسان ما لم يعلم } جعل الله تعالى القلم سببا ، به يحفظ ، وبه يثبت ، وبه يوصل ما يخاف فوته ونسيانه من أمر دينهم ودنياهم ما لو لم يكن القلم ، لم يستقم أمر دينهم ولا دنياهم .

ثم قوله تعالى : { علم بالقلم } أي علم الخط والكتابة بالقلم ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي وحفصة رضي الله عنها من علم الخط بالقلم ، ثم أضاف التعليم بالقلم إلى نفسه .

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والمعنى : إنه تعالى امتن على خلقه بما علمهم من كيفية الكتابة بالقلم ، لما في ذلك من كثرة الانتفاع لخلقه ، فقد نوه الله بذكر القلم إذ ذكره في كتابه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ...

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

أي أَفهَم الناسَ بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان ، والقلم آلة جامدة لا حياة فيها ولا من شأنها في ذاتها الإفهام ، فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان ألا يجعل منك قارئا مبينا ، وتاليا معلما ، وأنت إنسان كامل ؟ ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم . . تعليم الرب للإنسان( بالقلم ) . . . لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان . . ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية . ولكن الله - سبحانه - كان يعلم قيمة القلم ، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية . في أول سورة من سور القرآن الكريم . . هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتبا بالقلم ، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن . لولا أنه الوحي ، ولولا أنها الرسالة !

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

ثمّ تصف الآيتان التاليتان الربّ الأكرم : ( الذي علم بالقلم ) . ( علم الإنسان ما لا يعلم ) . وهاتان الآيتان أيضاً تتجهان إلى الجواب على قول رسول اللّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أنا بقارئ ، أي إنّ اللّه الذي علم البشر بالقلم وكشف لهم المجاهيل ، قادر على أن يعلم عبده الأمين القراءة والتلاوة . جملة ( الذي علم بالقلم ) تحتمل معنيين : الأوّل : أنّ اللّه علم الإنسان الكتابة ، وأعطاه هذه القدرة العظيمة التي هي منبثق تاريخ البشر ، ومنطلق جميع العلوم والفنون والحضارات . والثّاني : المقصود أنّ اللّه علم الإنسان جميع العلوم عن طريق القلم وبوسيلة الكتابة . وبإيجاز إمّا أن يكون التعليم تعليم الكتابة ، أو تعليم العلوم عن طريق الكتابة . وهو على أي حال تعبير عميق المعنى في تلك اللحظات الحساسة من بداية نزول الوحي ...