ثم ساق - سبحانه - ما يدل على البون الشاسع . بين النعيم المقيم الذى يعيش فيه عباد الله الملخصون . وبين الشقاء الدائم الذى يعيش فيه الكافرون ، فقال - تعالى - :
{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ . . . } .
اسم الإِشارة " ذلك " فى قوله - تعالى - : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } يعود إلى نعيم الجنة الذى سبق الحديث عنه ، والذى يشمل الرزق المعلوم وما عطف عليه .
والاستفهام للتوبيخ والتأنيب . والنزل : ما يقدم للضيف وغيره من طعام ومكان ينزل به .
و " ذلك " مبتد ، و { خير } خبره ، و { نزلا } : تمييز لخير ، والخيرية بالنسبة لما اختاره الكفار على غيره ، والجملة مقول لقول محذوف .
وشجرة الزقوم هى شجرة لا وجود لها فى الدنيا ، وإنما يخلقها الله - تعالى - فى النار ، كما يخلق غيرها من أصناف العذاب كالحيات والعقاب .
وقيل : هى شجرة سامة متى مست جسد أحد تورم ومات ، وتوجد فى الأراضى المجدبة المجاورة للصحراء .
والزقوم : من التزقم ، وهو ابتلاع الشئ الكريه ، بمشقة شديدة .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء الكافرين أذلك النعيم الدائم الذى ينزل به المؤمنون فى الجنة خير ، أم شجرة الزقوم التى يتبلغ بها الكافرون وهم فى النار ، فلا يجدون من ورائها إلا الغم والكرب لمرارة طعمها ، وقبح رائحتها وهيئتها .
ومعلوم نه لا خير فى شجرة الزقوم ، ولكن المؤمنين لما اختاروا ما أدى بهم إلى نعيم الجنة وهو الإِيمان والعمل الصالح ، واختار الكافرون ما أدى بهم إلى النار وبئس القرار ، قيل لهم ذلك على سبيل التوبيخ والتقريع ، لسوء اختيارهم .
يقول الله تعالى : أهذا الذي ذكره{[24982]} من نعيم الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ - خير ضيافة وعطاء { أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } ؟ أي : التي في جهنم .
وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك شجرة واحدة معينة ، كما قال بعضهم من أنها شجرة تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها منها غصن .
وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر ، يقال له : الزقوم ، كقوله تعالى : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ } [ المؤمنون : 20 ] ، يعني الزيتونة . ويؤيد ذلك قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ . لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ } [ الواقعة : 51 ، 52 ] .
{ أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم } شجرة ثمرها نزل أهل النار ، وانتصاب { نزلا } على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقال للنازل ولهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام ، وكذلك الزقوم لأهل النار ، وهو : اسم شجرة صغيرة الورق ذفر مرة تكون بتهامة سميت به الشجرة الموصوفة .
استئناف بعد تمام قصة المؤمن ورفاقه قصد منه التنبيه إلى البون بين حال المؤمن والكافر جرى على عادة القرآن في تعقيب القصص والأمثال بالتنبيه إلى مغازيها ومواعظها .
فالمقصود بالخبر هو قوله : { إنَّا جعلناهَا } ، أي شجرة الزقوم { فتنة للظالمين } إلى آخرها . وإنما صيغ الكلام على هذا الأسلوب للتشويق إلى ما يرد فيه .
والاستفهام مكنى به عن التنبيه على فضل حال المؤمن وفوزه وخسار الكافر . وهو خطاب لكل سامع .
والإِشارة ب { أذلك } إلى ما تقدم من حال المؤمنين في النعيم والخلود ، وجيء باسم الإِشارة مفرداً بتأويل المذكور ، بعلامة بُعد المشار إليه لتعظيمه بالبعد ، أي بعد المرتبة وسُموّها لأن الشيء النفيس الشريف يتخيل عالياً والعالي يلازمه البُعد عن المكان المعتاد وهو السفل ، وأين الثريا من الثرى .
والنزُل : بضمتين ، ويقال : نُزْل بضم وسكون هو في أصل اللغة : المكان الذي ينزل فيه النازل ، قاله الزجاج . وجرى عليه صاحب « اللسان » وصاحب « القاموس » ، وأُطلق إطلاقاً شائعاً كثيراً على الطعام المهيّأ للضيف لأنه أعدّ له لنزوله تسمية باسم مكانه نظير ما أطلقوا اسم السكن بسكون الكاف على الطعام المعدّ للساكن الدار إذ المسكن يقال فيه : سَكْن أيضاً . واقتصر عليه أكثر المفسرين ولم يذكر الراغب غيره . ويجوز أن يكون المراد من النزل هنا طعام الضيافة في الجنة . ويجوز أن يراد به مكان النزول على تقدير مضاف في قوله : { أمْ شجرة الزقوم } بتقدير : أم مكان شجرة الزقوم .
وعلى الوجهين فانتصاب { نُزُلاً } على الحال من اسم الإِشارة ومتوجه الإِشارة بقوله : { ذلك } إلى ما يناسب الوجهين مما تقدم من قوله : { رزق معلومٌ فواكِه وهم مُكْرَمُونَ في جَنَّاتِ النَّعِيم } [ الصافات : 41 - 43 ] .
ويجري على الوجهين معنى معادل الاستفهام فيكون إمّا أن تُقدّر : أم منزلُ شجرة الزقوم على حدّ قوله تعالى : { أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً } [ مريم : 73 ] فقد ذَكَر مكانين ، وإما أن نقدر : أم نزل شجرة الزقوم ، وعلى هذا الوجه الثاني تَكون المعادلة مشاكَلة تهكماً لأن طعام شجرة الزقوم لا يحق له أن يسمى نزلاً .
وشجرة الزقوم ذكرت هنا ذِكر ما هو معهود من قبلُ لورودها معرِفة بالإِضافة ولوقوعها في مقام التفاوت بين حالي خير وشر فيناسب أن تكون الحوالة على مِثلين معروفين ، فأما أن يكون اسماً جعله القرآن لشجرة في جهنم ويكون سبق ذكرها في { ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم } في سورة [ الواقعة : 51 - 52 ] ، وكان نزولها قبل نزول سورة الصافات . ويبين هذا ما رواه الكلبي أنه لما نزلت هذه الآية ( أي آية سورة الواقعة ) قال ابن الزِّبَعْرَى : أكثر الله في بيوتكم الزقوم ، فإن أهل اليمن يسمّون التمر والزبد بالزقوم . فقال أبو جهل لجاريته : زقمينا فأتته بزُبد وتمر فقال : تزقموا .
وعن ابن سيده : بلغنا أنه لما نزلت :
{ إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } أي في سورة [ الدخان : 43 44 ] لم يعرفها قريش . فقال أبو جهل : يا جارية هاتي لنا تمراً وزبداً نزدقمه ، فجعلوا يأكلون ويقولون : أفبهاذا يخوفنا محمد في الآخرة اهـ . والمناسب أن يكون قولهم هذا عندما سمعوا آية سورة الواقعة لا آية سورة الدخان وقد جاءت فيها نكرة . وإمّا أن يكون اسماً لشجر معروف هو مذموم ، قيل : هو شجر من أخبث الشجر يكون بتهامة وبالبلاد المجدبة المجاورة للصحراء كريهة الرائحة صغيرة الورق مسمومة ذات لبن إذا أصاب جلد الإِنسان تورّم ومات منه في الغالب . قاله قطرب وأبو حنيفة .
وتصدّي القرآن لوصفها المفصّل هنا يقتضي أنها ليست معروفة عندهم فذكرها مُجملة في سورة الواقعة فلما قالوا ما قالوا فصّل أوصافها هنا بهذه الآية وفي سورة الدخان بقوله : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل تغلِي في البطون كغلْي الحميم } [ الدخان : 43 - 46 ] .
وقد سماها القرآن بهذه الإِضافة كأنها مشتقة من الزقمة بضم الزاء وسكون القاف وهو اسم الطاعون ، وقال ابن دريد : لم يكن الزقوم اشتقاقاً من التزقم وهو الإِفراط في الأكل حتى يكرهه . وهو يريد الرد على من قال : إنها مشتقة من التزقم وهو البلْع على جَهد لكراهة الشيء . واستأنف وصفها بأن الله جعلها { فتنة للظالمين } ، أي عذاباً مثل ما في قوله : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] ، أي عذبوهم بأخدود النار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم} نزل الكافر {شجرة الزقوم} وهي النار للذين استكبروا عن لا إله إلا الله حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أهذا الذي أعطيت هؤلاء المؤمنين الذين وصفت صفتهم من كرامتي في الجنة، ورزقتهم فيها من النعيم خير، أو ما أعددت لأهل النار من الزّقُوم. وعُنِي بالنزل: الفضل...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله عز وجل: {أذلك خير نزلا} أن يكون من الإنزال، أي مالنا من الطعام والمأكل والمشرب خير {أم شجرة الزقوم}؟...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً}: رزقاً.
{أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}، والزقوم ثمرة شجرة كريهة الطّعم جداً، من قولهم: يزقم هذا الطعام، إذا تناوله على كره ومشقة شديدة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
والنُّزل العطاء الوافر ومنه إقامة الإنزال، وقيل ما يعد للضيف والعسكر.
شجرة الزقوم هي شجرة في النار يقتاتها أهل النار، مرة الثمر خشنة اللمس منتنة الريح...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
إنما يريد تقرير الأمر للمخاطب أنه لا خير إلا في أحدهما.
اعلم أنه تعالى لما قال بعد ذكر أهل الجنة ووصفها {لمثل هذا فليعمل العاملون} أتبعه بقوله: {أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجرا لهم عن الكفر، وكما وصف من قبل مآكل أهل الجنة ومشاربهم وصف أيضا في هذه الآية مآكل أهل النار ومشاربهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أذلك} الجزاء البعيد المنال البديع المثال {خير نزلاً} فأشار بذلك إلى أنه إنما هو شيء يسير كما يقدم للضيف عند نزوله على ما لاح في جنب ما لهم وراء ذلك مما لا تسعه العقول ولا تضبطه الفهوم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
يقال النُّزل لما يقامُ ويهيَّأُ من الطَّعامِ الحاضر للنَّازلِ فانتصابُه على الحاليَّةِ. والمعنى أنَّ الرِّزقَ المعلوم نزلُ أهل الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ نُزلهم شجرةُ الزَّقُّوم فأيُّهما خيرٌ في كونه نزلاً...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
هذا ضرب من التهكم والسخرية بهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وما شجرة الزقوم؟ (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رؤوس الشياطين).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بعد تمام قصة المؤمن ورفاقه قصد منه التنبيه إلى البون بين حال المؤمن والكافر، جرى على عادة القرآن في تعقيب القصص والأمثال بالتنبيه إلى مغازيها ومواعظها، فالمقصود بالخبر هو قوله: {إنَّا جعلناهَا}، أي شجرة الزقوم {فتنة للظالمين} إلى آخرها، وإنما صيغ الكلام على هذا الأسلوب للتشويق إلى ما يرد فيه.
والاستفهام مكنى به عن التنبيه على فضل حال المؤمن وفوزه وخسار الكافر، وهو خطاب لكل سامع.