ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته ، وسعة رحمته ، ، وعلى أنه وحده الذي يملك التحليل والتحريم ، ويعلم السر وأخفى فقال - تعالى - :
{ ألا إِنَّ للَّهِ مَا في السماوات . . . }
أى : ألا إن لله وحده لا لغيره ، ملك ما في السموات والأرض من مخلوقات ، وهو - سبحانه - يتصرف فيها وفق إرادته ومشيئته كما يتصرف المالك فيما يملكه ، فهو يعطي من يشاء ويغفر لمن يشاء ، ويتوب على من يشاء { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } وقوله : { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أى : ألا إن كل ما وعد الله به الناس من ثواب وعقاب وغيرهما ، ثابت ثبوتا لا ريب فيه ، وواقع وقوعا لا محيص عنه .
وصدرت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } الدالة على التنبيه ، لحض الغافلين عن هذه الحقيقة على التذكر والاعتبار والعودة إلى طريق الحق .
وأعيد حرف التنبيه في جملة { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } لتمييزها بهذا التنبيه عن سابقتها ، لأنها مقصودة بذاتها : إذ أن المشركين كانوا يظنون أن ما وعدهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو من باب الترغيب والترهيب وليس من باب الحقائق الثابتة .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أى ولكن أكثر هؤلاء الناس الذين بعثت إليهم يا محمد ، لا يعلمون ما جئت به علما نافعا لسوء استعدادهم ، وضعف عقولهم ، وخبث نفوسهم .
وقال { أَكْثَرَهُمْ } : إنصافا للقلة المؤمنة التي علمت الحق فاتبعته وصدقته ، ووقتفت إلى جانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تؤيده وتفتدي دعوته بالنفس والمال .
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنَّ وعده حقّ كائن لا محالة ، وأنه يحيي ويميت وإليه مرجعهم ، وأنه القادر على ذلك ، العليم بما تفرّق من الأجسام وتمزّق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار [ سبحانه وتعالى تقدست أسماؤه وجل ثناؤه ] . {[14266]}
و { ألا } استفتاح وتنبيه ، ثم أوجب أن جميع { ما في السماوات والأرض } ملك لله تعالى ، قال الطبري : يقول فليس لهذا الكافر يومئذ شيء يقتدي به .
قال القاضي أبو محمد : وربط الآيتين هكذا يتجه على بعد ، وليس هذا من فصيح المقاصد ، وقوله : { ولكن أكثرهم لا يعلمون } قيد بالأكثر لأن بعض الناس يؤمن فهم يعلمون حقيقة وعد الله تعالى وأكثرهم لا يعلمون فهم لأجل ذلك يكذبون .
تذييل تنهية للكلام المتعلق بصدق الرسول والقرآن وما جاء به من الوعيد وترقب يوْم البعث ويوم نزول العذاب بالمشركين . وقد اشتمل هذا التذييل على مجمل تفصيل ذلك الغرض ، وعلى تعليله بأن من هذه شؤونه لا يعجز عن تحقيق ما أخبر بوقوعه .
فكان افتتاحه بأن الله هو المتوحد بملك ما في السماوات والأرض فهو يتصرف في الناس وأحوالهم في الدنيا والآخرة تصرفاً لا يشاركه فيه غيره ؛ فتصرفه في أمور السماء شامل للمغيبات كلها ، ومنها إظهار الجزاء بدار الثواب ودار العذاب ؛ وتصرفه في أمور الأرض شامل لتصرفه في الناس . ثم أعقب بتحقيق وعده ، وأعقب بتجهيل منكريه ، وأعقب بالتصريح بالمهم من ذلك وهو الإحياء والإماتة والبعث .
وافتتح هذا التذييل بحرف التنبيه ، وأعيد فيه حرف التنبيه للاستيعاء لسماعه ، وللتنبيه على أنه كلام جامع هو حوصلة الغرض الذي سمعوا تفصيله آنفاً .
وتأكيد الخبر بحرف { إن } للرد على المشركين لأنهم لما جعلوا لله شركاء فقد جعلوها غير مملوكة لله . ولا يدفع عنهم ذلك أنهم يقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } لأن ذلك اضطراب وخبط .
وقدم خبر { إنَّ } على اسمها للاهتمام باسمه تعالى ولإفادة القصر لرد اعتقادهم الشركة كما علمت .
وأكد بحرف التوكيد بعد حرف التنبيه في الموضعين للاهتمام به ، ولرد إنكار منكري بعضه والذين هم بمنزلة المنكرين بعضه الآخر .
واللام في { لله } للملك ، و ( ما ) اسم موصول مفيد لعموم كل ما ثبتت له صلة الموصول من الموجودات الظاهرة والخفية .
ووعْد الله : هو وعده بعذاب المشركين ، وهو وعيد ، ويجوز أن يكون وعده مراداً به البعث ، قال تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده وعْداً علينا إنا كنا فاعلين } [ الأنبياء : 104 ] فسمَّى إعادة الخلق وعْداً .
وأظهر اسم الجلالة في الجملة الثانية دون الإتيان بضميره لتكون الجملة مستقلة لتجري مجرى المثل والكلام الجامع .
ووقع الاستدراك بقوله : { ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون } لأن الجملتين اللتين قبله أريد بهما الرد على معتقدي خلافهما فصارتا في قوة نفي الشك عن مضمونهما ، فكأنه قيل : لا شك يَحق في ذلك ، ولكن أكثرهم لا يعلمون فلذلك يَشكّون .
وتقييد نفي العلم بالأكثر إشارة إلى أن منهم من يعلم ذلك ولكنه يجحده مكابرة ، كما قال في الآية السابقة { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به } [ يونس : 40 ] . فضمير { أكثرهم } للمتحدث عنهم فيما تقدم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألا إن لله ما في السماوات والأرض} يقول: هو رب من فيهما،
{ألا إن وعد الله حق} أن من وحده أثابه الجنة، ومن كفر به عاقبه بالنار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ذكره: ألا إن كلّ ما في السموات وكلّ ما في الأرض من شيء لله ملك، لا شيء فيه لأحد سواه. يقول: فليس لهذا الكافر بالله يومئذ شيء يملكه فيفتدي به من عذاب ربه، وإنما الأشياء كلها للذي إليه عقابه، ولو كانت له الأشياء التي هي في الأرض ثم افتدى بها لم يقبل منه بدلاً من عذابه فيصرف بها عنه العذاب، فكيف وهو لا شيء له يفتدي به منه وقد حقّ عليه عذاب الله. يقول الله جلّ ثناؤه:"ألا إنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ" يعني أن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حقّ، فلا عليهم أن لا يستعجلوا به فإنه بهم واقع لا شكّ. "وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ "يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقة وقوع ذلك بهم، فهم من أجل جهلهم به مكذّبون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما وعده من الثواب والعقاب فهو حق. وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجئ ولا يغتر به المغترون...
اعلم أن من الناس من قال: إن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى قال قبل هذه الآية {ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به} فلا جرم قال في هذه الآية ليس للظالم شيء يفتدي به، فإن كل الأشياء ملك الله تعالى وملكه، واعلم أن هذا التوجيه حسن، أما الأحسن أن يقال إنا قد ذكرنا أن الناس على طبقات، فمنهم من يكون انتفاعه بالإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات، أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات، وإنما تعويلهم على الدلائل البينة والبراهين القاطعة، فلما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا أحق هو؟ أمر الرسول عليه السلام بأن يقول: {إي وربي} وهذا جار مجرى الإقناعيات، فلما ذكر ذلك أتبعه بما هو البرهان القاطع على صحته وتقريره أن القول بالنبوة والقول بصحة المعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم وأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه، فعبر عن هذا المعنى بقوله: {ألا إن لله ما في السموات والأرض} ولم يذكر الدليل على صحة هذه القضية، لأنه تعالى قد استقصى في تقرير هذه الدلائل فيما سبق من هذه السورة، وهو قوله: {إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض} وقوله: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل} فلما تقدم ذكر هذه الدلائل القاهرة اكتفى بذكرها، وذكر أن كل ما في العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور فهو ملكه وملكه، ومتى كان الأمر كذلك، كان قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات غنيا عن جميع الحاجات، منزها عن النقائص والآفات، فهو تعالى لكونه قادرا على جميع الممكنات يكون قادرا على إنزال العذاب على الأعداء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادرا على إيصال الرحمة إلى الأولياء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادرا على تأييد رسوله عليه السلام بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة ويكون قادرا على إعلاء شأن رسوله وإظهار دينه وتقوية شرعه، ولما كان قادرا على كل ذلك فقد بطل الاستهزاء والتعجب. ولما كان منزها عن النقائص والآفات، كان منزها عن الخلف والكذب وكل ما وعد به فلا بد وأن يقع...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان السبب الحامل لملوك الدنيا على الكذب والجور والظلم العجز أو طلب التزيد في الملك، أشار إلى تنزهه عن ذلك بقوله مؤكداً سوقاً لهم مساق المنكر لأن فعلهم في عبادة الأصنام فعل من ينكر مضمون الكلام: {ألا إن لله} أي الملك الأعظم وحده {ما في السماوات} بدأ بها لعلوها معنى وحساً وعظمتها؛ ولما كان المقام للغنى عن الظلم لم يحوج الحال إلى تأكيد بإعادة النافي فقال: {والأرض} أي من جوهر وعرض صامت وناطق، فلا شيء خارج عن ملك يحوجه إلى ظلم أو إخلاف وعد لحيازته، والحاصل أنه لا يظلم إلا ناقص الملك وأما من له الملك كله فهو الحكم العدل: لأن جميع الأشياء بالنسبة إليه على حد سواء، ولا يخلف الوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد العدل في الحكم، وفي الآية زيادة تحسير وتنديم للنفس الظالمة حيث أخبرت بأن ما تود أن تفتدي به ليس لها منه شيء ولا تقدر على التوصل إليه، ولو قدرت ما قبل منها، وإنما هو لمن رضي منها بالقليل منه فضلاً منه عليها على ما أمر به على لسان رسله، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير: لو أن لها ذلك لافتدت به، لكنه ليس لها بل لله؛ فلما ثبت بذلك حكمه بالعدل وتنزهه عن إخلاف الوعد.
صرح بمضمون ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم: {ألا إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله {حق} لأنه تام القدرة والغنى، فلا حامل له على الإخلاف {ولكن أكثرهم} أي الذين تدعوهم و هم يدعون دقة الأفهام وسعة العقول {لا يعلمون*} أي لا علم لهم فهم لا يتدبرون ما نصبنا من الأدلة فلا ينقادون لما أمرنا به من الشريعة فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم؛ و {ألا} مركبة من همزة الاستفهام و "لا "وكانت تقريراً وتذكيراً فصارت تنبيهاً، وكسرت إن بعدها لأنها استئنافية ينبه بها على معنى يبتدأ به ولذا يقع بعدها الأمر والدعاء بخلاف "لو" و "إلا" للاستقبال فلم يجز بعدها إلا كسر "إن" و "أما" قد تكون بمعنى "حقاً" في قولهم: أما إنه منطلق، وهي للحال فجاز في "أن" بعدها الوجهان -ذكره الرماني؛ والسماوات طبقات مرفوعة أولها سقف مزين بالكواكب. وهي من سما بمعنى علا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم قفى على ذلك بالدليل على قدرته على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده، وكون هؤلاء الظالمين لا يعجزونه، ولا يستطيعون الافتداء من عذابه، فقال: {أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ} قلنا مرارا إن السماوات والأرض عبارة عن جميع العالم، وهو تعالى مالك السماوات والأرض وملكهما، وله كل من فيهما من العقلاء، وما فيهما من غير العقلاء، وقد نطقت الآيات بهذا كله، ولكل مقام مقال، فهاهنا غلب غير العقلاء بمناسبة ما في الآية السابقة من الإشارة إلى غرور الكافرين والظالمين بما كانوا يمتعون به، وتعذر الافتداء بشيء منه، وسيأتي تغليب العقلاء في الآية 66 من هذه السورة لاقتضاء المناسبة له. وصدر الجملة بحرف التنبيه "ألا "الذي يفتتح به الكلام لتنبيه الغافلين عن هذه الحقيقة، وإن كانوا يعرفونها لكثرة ذهول الناس عن تذكر أمثالها، والمعنى ليتذكر الناسي، وليتنبه الغافل، وليعلم الجاهل، أن لله وحده ما في العوالم العلوية. عالم الأرض يتصرف فيها حيث يشاء، فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء، ولا يملك أحد من دونه شيئا من التصرف والفداء، في يوم البعث والجزاء.
{أَلاَ إِنَّ وعْدَ اللّهِ حَقٌّ} أعاد فيه حرف التنبيه تأكيدا وتذكيرا لتمييزه بهذا التنبيه عما سبقه؛ لأنه المقصود هنا بذاته، وإنما ذكر قبله للاستدلال عليه، أي كل ما وعد به على لسان رسله حق واقع لا ريب فيه، لأنه وعد المالك القادر على إنجاز ما وعد، لا يعجزه منه شيء.
{ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} يعني بأكثرهم منكري البعث والجزاء، أي لا يعلمون أمر الآخرة من طريق النظر والاستدلال، ولا من طريق الإيمان بما جاء به الرسل عليهم السلام.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثم، ومن أجل أن لا يأخذ الناس هذه الوعود والتهديدات الإِلهية مأخذ الهزل، ولكي لا يظنوا أنّ الله عاجز عن تنفيذ هذه الوعود، تضيف الآية: (ألا إِنّ لله ما في السماوات والأرض ألا إِنّ وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون) لأنّ جهلهم قد حجب بصيرتهم وجعل عليها غشاوة فلم يعوا الحقيقة.