بعد كل ذلك ، بشر أولياءه بحسن العاقبة ، وأنذر أعداءه بسوء المصير ، ورد على الذين قالوا اتخذ الله ولداً بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم فقال - تعالى - :
{ ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ . . . } .
الأولياء : جمع ولي مأخوذ من الولي بمعنى القرب والدنو ، يقال : تباعد فلان من عبد ولي أى : بعد قرب .
والمراد بهم : أولئك المؤمنون الصادقون الذي صلحت أعمالهم ، وحسنت بالله - تعالى - صلتهم ، فصاروا يقولون ويفعلون كل ما يحبه ، ويجتنبون كل ما يكرهه .
قال الفخر الرازي : " ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب ، فولى كل شيء هو الذي يكون قريبا منه .
والقرب من الله إنما يتم إذا كان القلب مستغرقاً في نور معرفته ، فإن رأى رأى دلائل قدرته ، وإن سمع سمع آيات وحدانيته ، وإن نطق نطق بالثناء عليه ، وِإن تحرك تحرك في خدمته ، وإن اجتهد اجتهد في طاعته ، فهنالك يكون في غاية القرب من الله - تعالى - ويكون وليا له - سبحانه - .
وإذا كان كذلك كان الله - وليا له - أيضاً - كما قال : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } وقد افتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } وبحرف التوكيد { إن } لتنبيه الناس إلى وجوب الاقتداء بهم ، حتى ينالوا ما ناله أولئك الأولياء الصالحون من سعادة دنيوية وأخروية .
وقوله : { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تمييز لهم عن غيرهم ممن لم يبلغوا درجتهم .
والخوف : حالة نفسية تجعل الإِنسان مضطرب المشاعر لتوقعه حصلو ما يكرهه .
والحزن اكتئاب نفسي يحدث للإِنسان من أجل وقوع ما يكرهه .
أى : أن الخوف يكون من أجل مكروه يتوقع حصوله ، بينما الحزن يكون من أجل مكروه قد وقع فعلاً .
والمعنى : ألا إن أولياء الله الذين صدق إيمانهم ، وحسن عملهم ، لا خوف علهيم من أهوال الموقف وعذاب الآخرة ، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم من الدنيا ، لأن مقصدهم الأسمى رضا الله - سبحانه - فمتى فعلوا ما يؤدي إلى ذلك هان كل ما سواه .
يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون ، كما فسرهم{[14293]} ربهم ، فكل من كان تقيا كان لله وليا : أنه { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ أي ]{[14294]} فيما يستقبلون من أهوال القيامة ، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما وراءهم في الدنيا .
وقال عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وغير واحد من السلف : أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكِر الله .
وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار :
حدثنا علي بن حَرْب الرازي ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري - وهو القمي - عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، مَنْ أولياء الله ؟ قال : " الذين إذا رءُوا ذُكر الله " . ثم قال البزار : وقد روي عن سعيد مرسلا{[14295]} . وقال ابن جرير : حدثنا أبو هشام الرِّفاعي ، حدثنا ابن فضيل{[14296]} حدثنا أبي ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير البَجَلي ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله عبادا يغبطهم{[14297]} الأنبياء والشهداء " . قيل : من هم يا رسول الله ؟ لعلنا نحبهم . قال : " هم قوم تحابوا{[14298]} في الله من غير أموال ولا أنساب ، وجوههم نور على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس " . ثم قرأ : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }{[14299]} ثم رواه أيضا أبو داود ، من حديث جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله{[14300]} .
وهذا أيضا إسناد جيد ، إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب ، والله أعلم .
وفي حديث الإمام أحمد ، عن أبي النضر ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل{[14301]} بينهم أرحام متقاربة ، تحابوا في الله ، وتصافوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور ، فيجلسهم عليها ، يفزع الناس ولا يفزعون ، وهم أولياء الله ، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " . والحديث متطول . {[14302]}-{[14303]}
و { ألا } استفتاح وتنبيه ، و { أولياء الله } هم المؤمنون الذين والوه بالطاعة والعبادة ، وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله ، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي ، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذراً من بعض الوصفية وبعض الملحدين في الولي{[6149]} ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا سئل عن أولياء الله ؟ فقال : الذين إذا رأيتهم ذكرت الله{[6150]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا وصف لازم للمتقين لأنهم يخشعون ويخشعون ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال : «أولياء الله قوم تحابوا في الله واجتمعوا في ذاته لم تجمعهم قرابة ولا مال يتعاطونه »{[6151]} وقوله { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } يحتمل أن يكون في الآخرة ، أي لا يهتمون بهمها ولا يخافون عذاباً ولا عقاباً ولا يحزنون لذلك ، ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا أي لا يخافون أحداً من أهل الدنيا ولا من أعراضها ولا يحزنون على ما فاتهم منها ، والأول أظهر والعموم في ذلك صحيح لا يخافون في الآخرة جملة ولا في الدنيا الخوف الدنياوي الذي هو في فوت آمالها وزوال منازلها وكذلك في الحزن ، وذكر الطبري عن جماعة من العلماء مثل ما في الحديث من الأولياء الذين إذا رآهم أحد ذكر الله ، وروي فيهم حديث : «إن أولياء الله هم قوم يتحابون في الله وتجعل لهم يوم القيامة منابر من نور وتنير وجوههم ، فهم في عرصة القيامة لا يخافون ولا يحزنون »{[6152]} وروي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال » ، الحديث ، ثم قرأ { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون }{[6153]} .
استئناف للتصريح بوعد المؤمنين المعرَّض به في قوله : { إلاَّ كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك } [ يونس : 61 ] الآية ، وبتسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من الكفار من أذى وتهديد ، إذ أعلن الله للنبيء والمؤمنين بالأمن من مخافة أعدائهم ، ومن الحزن من جراء ذلك ، ولمح لهم بعاقبة النصر ، ووعدهم البشرى في الآخرة وعداً لا يقبل التغيير ولا التخلف تطميناً لنفوسهم ، كما أشعر به قوله عقبه { لا تَبديل لكلمات الله } .
وافتتاح الكلام بأداة التنبيه إيماء إلى أهمية شأنه ، كما تقدم في قوله : { ألا إنهم هم المفسدون } في سورة [ البقرة : 12 ] ، ولذلك أكدت الجملة بإنَّ } بعد أداة التنبيه .
وفي التعبير ب { أولياء الله } دون أن يؤتى بضمير الخطاب كما هو مقتضى وقوعه عقب قوله : { وما تعملون من عمل } [ يونس : 61 ] يؤذن بأن المخاطبين قد حق لهم أنهم من أولياء الله مع إفادة حكم عام شملهم ويشمل من يأتي على طريقتهم .
وجملة : { لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } خبر { إن } .
والخوف : توقع حصول المكروه للمتوقِّع ، فيتعدى بنفسه إلى الشيء المتوقَّع حصوله . فيقال : خاف الشيْء ، قال تعالى : { فلا تخافوهم وخَافون } [ آل عمران : 175 ] . وإذا كان توقع حصول المكروه لغير المتوقع يقال للمتوقَّع : خاف عليه ، كقوله تعالى : { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [ الشعراء : 135 ] .
وقد اقتضى نظم الكلام نفي جنس الخوف لأن ( لا ) إذا دخلت على النكرة دلت على نفي الجنس ، وأنها إذا بني الاسم بعدها على الفتح كان نفي الجنس نصاً وإذا لم يُبنَ الاسم على الفتح كان نفي الجنس ظاهراً مع احتمال أن يراد نفي واحد من ذلك الجنس إذا كان المقام صالحاً لهذا الاحتمال ، وذلك في الأجناس التي لها أفراد من الذوات مثل رجل ، فأما أجناس المعاني فلا يتطرق إليها ذلك الاحتمال فيستوي فيها رفع اسم ( لا ) وبناؤه على الفتح ، كما في قول إحدى نساء حديثِ أم زرع « زوجي كلَيْلِ تهامة لا حَرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة » فقد رويت هذه الأسماء بالرفع وبالبناء على الفتح .
فمعنى { لا خوف عليهم } أنهم بحيث لا يخاف عليهم خائف ، أي هم بمأمنٍ من أن يُصيبهم مكروه يُخاف من إصابة مِثلِه ، فهم وإن كانوا قد يهجس في نفوسهم الخوف من الأعداء هجساً من جبلة تأثر النفوس عند مشاهدة بوادر المخافة ، فغيرهم ممن يَعلم حالهم لا يَخَاف عليهم لأنه ينظر إلى الأحوال بنظر اليقين سَليماً من التأثر بالمظاهر ، فحالهم حال من لا ينبغي أن يخاف ، ولذلك لا يَخاف عليهم أولياؤهم لأنهم يأمنون عليهم من عاقبة ما يتوجَّسون منه خيفة ، فالخوف الذي هو مصدر في الآية يقدر مضافاً إلى فاعله وهو غيرهم لا محالة ، أي لا خوف يخافه خائف عليهم ، وهم أنفسهم إذا اعتراهم الخوف لا يلبث أن ينقشع عنهم وتحل السكينة محله ، كما قال تعالى : { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } [ التوبة : 25 ، 26 ] ، وقال لموسى : { لا تَخاف دَرَكا ولا تخشى } [ طه : 77 ] ، وقال : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو الله بالنصر ويكثر من الدعاء ويقول : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد في الأرض » ثم خرج وهو يقول : { سيهزم الجمع ويولون الدبر } [ القمر : 45 ] .
ولهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية تغير الأسلوب في قوله : { ولا هم يحزنون } فأسند فيه الحزن المنفي إلى ضمير { أولياء الله } مع الابتداء به ، وإيراد الفعل بَعده مسنداً مفيداً تقوي الحكم ، لأن الحزن هو انكسار النفس من أثر حصول المكروه عندها فهو لا توجد حقيقته إلا بعد حصوله ، والخوف يكون قبل حصوله ، ثم هم وإن كانوا يحزنون لما يصيبهم من أمور في الدنيا كقول النبي صلى الله عليه وسلم « وإنّا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون » فذلك حزن وجداني لا يستقر بل يزول بالصبر ، ولكنهم لا يلحقهم الحزن الدائم وهو حزن المذلة وغلبة العدو عليهم وزوال دينهم وسلطانهم ، ولذلك جيء في جانب نفي الحزن عنهم بإدخال حرف النفي على تركيب مفيد لتقوي الحكم بقوله : { ولا هم يحزنون } لأن جملة : { هم يحزنون } يفيد تقديم المسند إليه فيها تقوي الحكم الحاصل بالخبر الفعلي ، فالمعنى لا يحصل لهم خوف متمكن ثابت يبقى فيهم ولا يجدون تخلصاً منه .
فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم . ولما كان ما يُخاف منه من شأنه أن يُحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكِّداً لمعنى نفي خوف خائف عليهم . وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا ، كقوله : { فأوجس في نفسه خيفة موسى } [ طه : 67 ] . وقد علمت ما يُغني عن هذا التأويل ، وهو يبعد عن مفاد قوله : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .
والولي : الموالي ، أي المحالف والناصر . وكلها ترجع إلى معنى الوَلْي ( بسكون اللام ) ، وهو القرب وهو في معنى الولي كلها قرب مجازي . وتقدم في قوله تعالى : { قل أغير الله اتخذ ولياً } في سورة [ الأنعام : 14 ] . وهو قرب من الجانبين ، ولذلك فسروه هنا بأنه الذي يتولى الله بالطاعة ويتولاه الله بالكرامة . وقد بين أولياء الله في هذه الآية بأنهم الذين آمنوا واتقوا ، فاسم الموصول وصلته خبر وما بينهما اعتراض ، أو يجعل جملة : { لا خوف عليهم } خبر { إنّ } ويجعل اسم الموصول خبرَ مبتدأ محذوف حذفاً جارياً على الاستعمال ، كما سماه السكاكي في حذف المسند إليه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله "لا خوف عليهم "في الآخرة من عقاب الله لأن الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه، "وَلا هم يحزنون" على ما فاتهم من الدنيا. والأولياء جمع وليّ، وهو النصير، وقد بيّنا ذلك بشواهده.
واختلف أهل التأويل فيمن يستحقّ هذا الاسم؛
فقال بعضهم: هم قوم يُذكر الله لرؤيتهم لما عليهم من سيما الخير والإخبات...
حدثنا أبو هاشم الرفاعي، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا أبي عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ مِنْ عِبادِ اللّهِ عِبادا يَغْبِطُهُمُ الأنْبِياءُ والشهَدَاءُ». قيل: من هم يا رسول الله، فلعلنا نحبهّم؟ قال: «هُمْ قَوْمٌ تَحابّوا في اللّهِ مِنْ غيرِ أمْوَالٍ وَلا أنْسابٍ، وُجُوهُهُمْ مِنْ نُور، على مَنابِرَ مِنْ نُور، لا يَخافُونَ إذَا خافَ النّاسُ، وَلا يَحْزَنُونَ إذَا حَزَنَ النّاس» وقرأ: "ألا إنّ أوْلِياءَ اللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ"...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: الوليّ، أعني وليّ الله، هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله: "الّذِينَ آمَنُوا وكانُوا يَتّقُونَ"...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَوْلِيَاء الله} الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة.
اعلم أنا بينا أن قوله تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن} مما يقوي قلوب المطيعين، ومما يكسر قلوب الفاسقين فأتبعه الله تعالى بشرح أحوال المخلصين الصادقين الصديقين وهو المذكور في هذه الآية. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنا نحتاج في تفسير هذه الآية إلى أن نبين أن الولي من هو؟ ثم نبين تفسير نفي الخوف والحزن عنه. فنقول: أما إن الولي من هو؟ فيدل عليه القرآن والخبر والأثر والمعقول.
أما القرآن، فهو قوله في هذه الآية: {الذين آمنوا وكانوا يتقون} فقوله: {آمنوا} إشارة إلى كمال حال القوة النظرية، وقوله: {وكانوا يتقون} إشارة إلى كمال حال القوة العملية، وفيه مقام آخر، وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل، ثم نصف الولي بأنه كان متقيا في الكل. أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال الله أعلى من أن يحيط به عقل البشر، فالصديق إذا وصف الله سبحانه بصفة من صفات الجلال، فهو يقدس الله عن أن يكون كماله وجلاله مقتصرا على ذلك المقدار الذي عرفه ووصفه به، وإذا عبد الله تعالى فهو يقدس الله تعالى عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار، فثبت أنه أبدا يكون في مقام الخوف والتقوى. وأما الأخبار فكثيرة... وأما المعقول فنقول: ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب، فولي كل شيء هو الذي يكون قريبا منه، والقرب من الله تعالى بالمكان والجهة محال، فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معرفة الله تعالى سبحانه، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله، وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله، وإن تحرك تحرك في خدمة الله، وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله، فهذا الشخص يكون وليا لله تعالى، وإذا كان كذلك كان الله تعالى وليا له أيضا كما قال الله تعالى {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} ويجب أن يكون الأمر كذلك، لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين...
وأما قوله تعالى في صفتهم: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} ففيه بحثان:
البحث الأول: أن الخوف إنما يكون في المستقبل، بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف، والحزن إنما يكون على الماضي إما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه.
البحث الثاني: قال بعض المحققين: إن نفي الحزن والخوف إما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة، والأول باطل لوجوه: أحدها: أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصا لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام: « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» وعلى ما قال: «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» وثانيها: أن المؤمن، وإن صفا عيشه في الدنيا، فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد، وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة الله تعالى، وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى: {لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} على أمر الآخرة، فهذا كلام محقق، وقال بعض العارفين: إن الولاية عبارة عن القرب فولي الله تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من الله تعالى، وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة الله تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى الله، ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة، ومتى كانت هذه الحالة حاصلة فإن صاحبها لا يخاف شيئا، ولا يحزن بسبب شيء، وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به، والمستغرق في نور جلال الله غافل عن كل ما سوى الله تعالى، فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن؟ وهذه درجة عالية، ومن لم يذقها لم يعرفها، ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة، وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية، كما يحصل لغيره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما بين تعالى لعباده سعة علمه، ومراقبته لعباده، وإحصاءه أعمالهم عليهم، وجزاءهم عليها، وذكرهم بفضله، وما يجب عليهم من شكره، بين لهم في هذه الآيات الثلاث حال الشاكرين المتقين، الذين لهم أحسن الجزاء في يوم الدين.
فقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ} افتتحت هذه الجملة بكلمة (ألا) للتنبيه وتوجيه الفكر لها، والأولياء جمع ولي، وهو وصف من الولاء والتوالي، ومن الولاية والتولي، فيطلق على القريب بالنسب بالمكانة والصداقة، وعلى النصير، والمتولي للأمر والحكم، أو على اليتيم والقاصر المدبر لشؤونه، ويوصف به العبد والرب تعالى كما تقدم في قوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} [البقرة: 257] وفصلنا الكلام في تفسيره بما بينا به ولاية الله العامة والخاصة لعباده، وولايتهم له، أو للشيطان والطاغوت، وولاية بعضهم لبعض، وضلال بعضهم بجعل ولاية الله الخاصة به لبعض عباده، وهم الذين يسمونهم أولياء الله بما يسلبهم استحقاق هذا اللقب، وذكرنا في شواهد ذلك التفسير هذه الآية.
أولياء الله أضداد أعدائه المشركين به، الكافرين بنعمه، فهم المؤمنون المتقون كما نطقت به الآية، وهم درجات: أعلاهم درجة هم الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده، والتوكل عليه، وحبه والحب فيه، والولاية له، فلا يتخذون له أندادا يحبونهم من نوع حبه، ولا يتخذون من دونه وليا ولا شفيعا يقربهم إليه زلفى، ولا وكيلا ولا نصيرا فيما يخرج عن توفيقهم لإقامة سننه في الأسباب والمسببات، ويتولون رسوله والمؤمنين بما أمرهم به، قال تعالى: {وأنذر الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه من ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} [الأنعام: 51] وقال: {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون} [السجدة:4] وقال: {قل من الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من الله وليا ولا نصيرا} [الأحزاب:17] وقال في آيتين أخريين منها {وكفى بالله وكيلا} [النساء: 81] والآيات كثيرة في توليهم له بالطاعة، وتوليه لهم بالهداية والعناية والإعانة والنصر والتوفيق.
وحسبنا هنا ما نفاه عنهم، وما وصفهم به، ثم ما زفه إليهم من البشارة:
فأما ما نفاه مخبرا به عنهم فقوله: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وهو ما نفاه عن جميع المؤمنين الصالحين والمصلحين والمتقين في الآيات الكثيرة (راجع 2: 62 و 5: 72 و 6: 48 و7: 43 و49 وقد تقدم تفسيرها). فأما في الآخرة حيث يتحقق هذا على أتم وجه -وهو المقصود بالذات- فلا خوف يقع عليهم ويرهقون به مما يخاف الكفار والفساق والظالمون من أهوال الموقف وعذاب الآخرة، كما قال تعالى بعد ذكر إبعادهم عن جهنم {لا يحزنهم الفزع الأكبر} [البقرة 103] الآية، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم، وأما في الدنيا فلا يخافون مما يخاف غيرهم من الكفار وضعفاء الإيمان وعبيد الدنيا من مكروه يتوقع كلقاء العدو، قال: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175] أو بخس في الحقوق، أو رهق يغشاهم بالظلم والذل، قال: {فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا} [الجن: 13] ولا هم يحزنون من مكروه أو ذهاب محبوب وقع بالفعل كما قال: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم} [الحديد: 23] والمراد أنهم لا يخافون في الدنيا كخوف الكفار، ولا يحزنون كحزنهم، وسنذكر نفي الخوف والحزن عنهم عند الموت. وأما أصل الخوف والحزن فهو من الأعراض البشرية التي لا يسلم منها أحد في الدنيا، وإنما يكون المؤمنون الصالحون أصبر الناس وأرضاهم بسنن الله اعتقادا وعلما بأنه إذا ابتلاهم بشيء مما يخيف أو يحزن فإنما يربيهم بذلك لتكميل نفوسهم وتمحيصها بالجهاد في سبيله الذي يزداد به أجرهم كما صرحت بذلك الآيات الكثيرة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم فقال: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ْ} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال. {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ} على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثبت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكيف يخاف أولياء الله أو يحزنون والله معهم هكذا في كل شأن وفي كل عمل وفي كل حركة أو سكون؟ وهم أولياء الله، المؤمنون به الأتقياء المراقبون له في السر والعلن.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالكلام يفيد أن الله ضمن لأوليائه أن لا يحصل لهم ما يخافونه وأن لا يحل بهم ما يحزنهم. ولما كان ما يُخاف منه من شأنه أن يُحزن من يصيبه كان نفي الحزن عنهم مؤكِّداً لمعنى نفي خوف خائف عليهم. وجمهور المفسرين حملوا الخوف والحزن المنفيين على ما يحصل لأهل الشقاوة في الآخرة بناء على أن الخوف والحزن يحصلان في الدنيا
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وجمع الإيمان مع التقوى في الآيات جدير بالتنبيه والتنويه، من حيث كون الإيمان أمرا قلبيا وغيبيا وكون التقوى برهانا عليه يعني التزام كل ما أمر الله ورسوله به وكل ما نهيا عنه لينال المؤمن رضاء الله تعالى ويتفادى غضبه ولا يمكن أن تصحّ دعوى الإيمان إلاّ به. ومن حيث إن التقوى بالتالي هي أعظم مظاهره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ أولياء وأحباء الله الحقيقيين متحررون من كل أشكال الارتباط والتعلق بعالم المادة، ويحكم «الزهد» بمعناه الحقيقي وجودهم، فهم لا يجزعون من فقدان الممتلكات المادية ولا يخافون من المستقبل، ولا يشغلون أفكارهم بمثل هذه المسائل. وبناءً على ذلك فإِن الغموم والأخاويف التي ترتبط بالماضي والمستقبل، والتي تجعل الآخرين في حال اضطراب وقلق دائم، لا سبيل لها إِلى وجود هؤلاء.