التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ مُتَبَّرٞ مَّا هُمۡ فِيهِ وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (139)

وبعد أن كشف لهم سوء حالهم ، وفرط جهالاتهم ، بين لهم فساد ما طلبوه في ذاته ، وقبح عاقبة من أرادوا تقليدهم ، فقال لهم بأسلوب الاستئناف المفيد للتعليل { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } متبر : من التتبير بمعنى الإهلاك أو التكسير والتحطيم يقال : تبره يتبره وتبره أى أهلكه ودمره .

أى : إن هؤلاء الذين تبغون تقليدهم في عبادة الأوثان ، محكوم على ما هم فيه بالدمار ، ومقضى على ما يعملونه من عبادة الأصنام بالاضمحلال والزوال لأن دين التوحيد سيظهر في هذه الديار ، وستصير العبادة لله الواحد القهار .

وبهذا الرد يكون موسى - عليه السلام - قد كشف لقومه عن سوء ما يطلبون ، وصرح لهم بأن مصير ما يبغونه إلى الهلاك والتدمير .

قال الإمام الرازى : ( والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من عبادة ذلك العجل نفع ولا دفع ضرر ، وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سببا لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها ، فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعلق قلبه بغيره ، ويصير ذلك التعلق سببا لإعراض القلب عن ذكره تعالى .

وإذا ثبت هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل وضائع . وسعى في تحصيل ضد هذا الشىء ونقيضه ، لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله - تعالى - في القلب . والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفته عن القلب ، فكان هذا ضد الغرض ونقيضا للمطلوب - والله أعلم - ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ مُتَبَّرٞ مَّا هُمۡ فِيهِ وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (139)

{ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ } أي : هالك { وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

وروى الإمام أبو جعفر بن جرير [ رحمه الله ]{[12085]} تفسير هذه الآية من حديث محمد بن إسحاق وعَقِيل ، ومعمر كلهم ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان ، عن أبي واقد الليثي : أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، قال : وكان للكفار سدرة{[12086]} يعكفون عندها ، ويعلقون بها أسلحتهم ، يقال لها : " ذات أنواط " ، قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال : " قلتم والذي نفسي بيده ، كما قال قوم موسى لموسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }{[12087]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان الدِّيلي ، عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلت : يا نبي الله{[12088]} اجعل لنا هذه " ذات أنواط " ، كما للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ، ويعكفون حولها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ] }{[12089]} إنكم تركبون{[12090]} سنن من قبلكم " {[12091]}

ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه عن جده مرفوعا{[12092]}


[12085]:زيادة من أ.
[12086]:في م: "سدة".
[12087]:تفسير الطبري (13/81، 82).
[12088]:في أ: "رسول الله".
[12089]:زيادة من د.
[12090]:في م: "لتركبون".
[12091]:المسند (5/218) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11185) من طريق عبد الرزاق به ورواه الترمذي في السنن برقم (2180) من طريق سفيان عن الزهري بنحوه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
[12092]:ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/21) من طريق ابن أبي فديك، عن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده مرفوعا، قال الهيثمي في المجمع (7/24): "فيه كثير بن عبد الله وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ مُتَبَّرٞ مَّا هُمۡ فِيهِ وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (139)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ هََؤُلآءِ مُتَبّرٌ مّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . .

وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل موسى لقومه من بني إسرائيل ، يقول تعالى ذكره قال لهم موسى : إن هؤلاء العكوف على هذه الأصنام ، الله مهلك ما هم فيه من العمل ومفسده ، ومخسرهم فيه بإثابته إياهم عليه العذاب المهين ، وباطل ما كانوا يعملون من عبادتهم إياها فمضمحلّ لأنه غير نافع عند مجيء أمر الله وحلوله بساحتهم ، ولا مدافع عنهم بأس الله إذا نزل بهم ، ولا منقذهم من عذابه إذا عذّبهم في القيامة ، فهو في معنى ما لم يكن .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قالا جميعا : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّ هَؤُلاءِ مُتَبّرٌ ما هُمْ فِيهِ يقول : مهلك ما هم فيه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ هَؤُلاءِ مُتَبّرٌ ما هُمْ فِيهِ يقول : خسران .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : إنّ هَؤُلاءِ مُتَبّرٌ ما هُمْ فِيهِ وبَاطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال : هذا كله واحد ، كهيئة «غفور رحيم » ، «عفوّ غفور » . قال : والعرب تقول : إنه البائس المتبر ، وإنه البائس المخسر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ هَـٰٓؤُلَآءِ مُتَبَّرٞ مَّا هُمۡ فِيهِ وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (139)

جملة { إن هؤلاء متّبرٌ ما همُ فيه } بمعنى التعليل لمضمون جملة { إنكم قوم تجهلون } فلذلك فصلت عنها وقد أكدت وجعلت اسمية لمثل الأغراض التي ذكرت في أختها ، وقد عُرّف المسند إليه بالإشارة لتمييزهم بتلك الحالة التي هم متلبسون بها أكمل تمييز ، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما يَرِد بعد اسم الإشارة من الأوصاف وهي كونهم متّبرا أمرهم وباطلاً عملهم ، وقُدم المسند وهو { متَبّر } على المسند إليه وهو { ما هم فيه } ليفيد تخصيصه بالمسند إليه أي : هم المعرضون للتّبار وأنه لا يعدوهم البتة ، وأنه لهم ضربة لازب ، ولا يصح أن يجعل { متَبر } مسنداً إليه لأن المقصود بالإخبار هو ما هم فيه .

والمتَبّر : المدمّر ، والتّبَار بفتح التاء الهلاك { ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً } [ نوح : 28 ] . يقال نَبَر الشيء كضرب وتعب وقتل وتَبّره تضعيف للتعدية ، أي أهلكه والتتبير مستعار هنا لفساد الحال ، فيبقى اسم المفعول على حقيقته في أنه وصف للموصوف به في زمن الحال .

ويجوز أن يكون التتبير مستعاراً لسوء العاقبة ، شبه حالهم المزخرفُ ظاهرهُ بحال الشيء البهيج الآيل إلى الدمار والكَسْر فيكون اسم المفعول مجازاً في الاستقبال ، أي صائِر إلى السوء .

و { ما هم فيه } هو حالهم ، وهو عبادة الأصنام وما تقتضيه من الضلالات والسيئات ولذلك اختير في تعريفها طريق الموصولية لأن الصلة تحيط بأحوالهم التي لا يحيط بها المتكلم ولا المخاطبون .

والظرفية مجازية مستعارة للملابسة ، تشبيهاً للتلبس باحتواء الظرف على المظروف .

والباطل اسم لضد الحق فالإخبار به كالإخبار بالمصدر يفيد مبالغة في بطلانه لأن المقام مقام التوبيخ والمبالغة في الإنكار ، وقد تقدم آنفاً معنى الباطل عند قوله تعالى : { فوقع الحَقُّ وبَطَل ما كانوا يعملون } [ الأعراف : 118 ] .

وفي تقديم المسند ، وهو { باطل } على المسند إليه وهو { ما كانوا يعملون } ما في نظيره من قوله : { متبر ما هم فيه } .