ثم بين - سبحانه - ما اقتضته حكمته وعدالته فقال : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } .
أى : فعل ما فعل - سبحانه - من تقسيم الناس إلى فريقين ، ليجزى الذين آمنوا عملوا الأعمال الصالحات ، الجزاء الحسن الذى يستحقونه ، وليعطيهم العطاء الجزيل من فضله ، لأنه بحبهم ، أما الكافرون ، فإنه - سبحانه - لا يحبهم ولا يرضى عنهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْكَافِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : يومئذ يصّدّعون . . . لِيَجزيَ الّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله وعَمِلُوا الصّالِحاتِ يقول : وعملوا بما أمرهم الله مِنْ فَضْلِهِ الذي وعد من أطاعه في الدنيا أن يجزيه يوم القيامة إنّهُ لا يُحِبّ الكافِرِينَ يقول تعالى ذكره : إنما خصّ بجزائه من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات دون من كفر بالله ، إنه لا يحبّ أهل الكفر به . واستأنف الخبر بقوله إنّه لا يُحِبّ الكافِرِينَ وفيه المعنى الذي وصفت .
{ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله } علة ل { يمهدون } أو ل { يصدعون } ، والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله : { إنه لا يحب الكافرين } فإن فيه إثبات البعض لهم والمحبة للمؤمنين ، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإثابة تفضل محض ، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر .
يتعلق { ليجزي الذين ءامنوا } ب { يمهدون } أي يمهدون لعلة أن يجزي الله إياهم من فضله . وعدل عن الإضمار إلى الإظهار في قوله { الذين ءامنوا وعملوا الصالحات } للاهتمام بالتصريح بأنهم أصحاب صلة الإيمان والعمل الصالح وأن جزاء الله إياهم مناسب لذلك لتقرير ذلك في الأذهان ، مع التنويه بوصفهم ذلك بتكريره وتقريره كما أنبأ عن ذلك قوله عقبه { إنه لا يحب الكافرين } .
وقد فهم من قوله { مِنْ فَضْلِهِ } أن الله يجازيهم أضعافاً لرضاه عنهم ومحبته إياهم كما اقتضاه تعليل ذلك بجملة { إنه لا يحب الكافرين } المقتضي أنه يحب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فحصل بقوله { إنه لا يحب الكافرين } تقرير بَعد تقرير على الطرد والعكس فإن قوله { ليجزي الذين ءامنوا } دل بصريحه على أنهم أهل الجزاء بالفضل ، ودل بمفهومه على أنهم أهل الولاية .
وقوله { إنه لا يحب الكافرين } يدل بتعليله لما قبله على أن الكافرين محرومون من الفضل ، وبمفهومه على أن الجزاء موفور للمؤمنين فضلاً وأن العقاب مُعيّن للكافرين عدلاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليجزي} يعني لكي يجزى الله عز وجل في القيامة.
{الذين آمنوا} بتوحيد الله عز وجل.
{وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يومئذ يصّدّعون... "لِيَجزيَ الّذِينَ آمَنُوا "بالله ورسوله "وعَمِلُوا الصّالِحاتِ" يقول: وعملوا بما أمرهم الله "مِنْ فَضْلِهِ" الذي وعد من أطاعه في الدنيا أن يجزيه يوم القيامة.
"إنّهُ لا يُحِبّ الكافِرِينَ" يقول تعالى ذكره: إنما خصّ بجزائه من فضله الذين آمنوا وعملوا الصالحات دون من كفر بالله، إنه لا يحبّ أهل الكفر به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا يدل أن الثواب والجزاء، سبيل وجوبه الفضل لأن في الحكمة وجوبه لما سبق من الله إليهم نعم ما لم يتهيأ لهم القيام بشكر واحدة منها فضلا أن يقوموا للكل. فإذا كان كذلك صار الثواب والجزاء، وجوبه الفضل لا الاستحقاق والاستيجاب، وأما العقوبات، فوجوبها الاستحقاق، إذ في الحكمة وجوبها، لذلك افترقا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِيَجْزِىَ} متعلق ب"يمهدون" تعليل له.
{مِن فَضْلِهِ} مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب؛ وهذا يشبه الكناية، لأن الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو أراد من عطائه وهو ثوابه؛ لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب.
وتكرير {الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لا يحب الكافرين} ليس الحب بمعنى الإرادة ولكنه بمعنى لا يظهر عليهم أمارات رحمته ولا يرضاه لهم ديناً ونحو هذا...
ذكر زيادة تفصيل لما يمهده المؤمن لفعله الخير وعمله الصالح، وهو الجزاء الذي يجازيه به الله، والملك إذا كان كبيرا كريما، ووعد عبدا من عباده بأني أجازيك يصل إليه منه أكثر مما يتوقعه.
{من فضله} يعني أنا المجازي فكيف يكون الجزاء، ثم إني لا أجازيك من العدل وإنما أجازيك من الفضل فيزداد الرجاء.
{إنه لا يحب الكافرين} أوعدهم بوعيد ولم يفصله، وإن كان عند المحقق هذا الإجمال فيه كالتفصيل، فإن عدم المحبة من الله غاية العذاب،وفيه لطيفة وهي أن الله عندما أسند الكفر والإيمان إلى العبد قدم الكافر فقال: {من كفر فعليه كفره} وعندما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن فقال: {ليجزي الذين آمنوا}.
{إنه لا يحب الكافرين} لأن قوله {من كفر} في الحقيقة لمنع الكافر عن الكفر بالوعيد ونهيه عن فعله بالتهديد.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{إنه لا يحب الكافرين} فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له.
من فضله دال على أن الإثابة تفضل محض، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إنه لا يحب الكافرين} أي لا يفعل مع العريقين في الكفر فعل المحب، فلا يسويهم بالمؤمنين، وعلم من ذلك ما طوى من جزائهم.
فالآية من وادي الاحتباك، وهو أن يؤتي بكلامين يحذف من كل منهما شيء ويكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كل على ما حذف من الآخر، فالتقدير هنا بعد ما ذكر من جزاء الذين آمنوا أنه يحب المؤمنين ويجزي الذين كفروا وعملوا السيئات بعدله لأنه لا يحب الكافرين، فغير النظم ليدل مع دلالته كما ترى على ما حذف على أن إكرام المؤمنين هو المقصود بالذات، وهو بعينه إرغام الكافرين، وعبر في شق المؤمنين بالمنتهى الذي هو المراد من محبة الله لأنه أسرّ. وفي جانب الكافرين بالمبدأ الذي هو مجاز لأنه أنكأ وأضر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وذلك: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات).. (من فضله).. فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله. وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله. إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين. وكراهيته سبحانه للكافرين: (إنه لا يحب الكافرين)...
وذكر هنا الإيمان فقال:"ليجزي الذين آمنوا"، ثم "وعملوا الصالحات "حتى لا يظن أحد أن العمل الصالح ربما يغني عن الإيمان.
"إنه لا يحب الكافرين "نلحظ في الآية أنها تتحدث عن جزاء المؤمنين، فما مناسبة ذكر الكافرين هنا؟
قالوا: لأن الله تعالى يريد أن يلفت نظر عبده الكافر إلى الإيمان ومزاياه، لأنه يحب أن يكون الخلق جميعا مؤمنين لينالوا جزاء الإيمان؛ لأن الجميع عباده، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها، لذلك يفرح الله تعالى بتوبة عبده حين يعود إليه بعد إعراض.