التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ} (26)

ولكن هذه النصائح الغالية الحكيمة من الرجل الصالح لقومه ، لم تصادف أذنا واعية بل إن سياق القصة بعد ذلك ليوحى بأن قومه قتلوه ، فقد قال - تعالى - بعد أن حكى نصائح هذا الرجل لقومه ، { قِيلَ ادخل الجنة . . }

أى : قالت الملائكة لهذا الرجل الصالح عند موته على سبيل البشارة : ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الطيب .

قال الآلوسى : قوله : { قِيلَ ادخل الجنة . . } استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك .

والظاهر أن الأمر المقصود به الإِذن له بدخول الجنة حقيقة ، وفى ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الحياة ، فعن ابن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه . .

وقيل : الأمر للتبشير لا للإِذن بالدخول حقيقة ، أى : قالت ملائكة الموت وذلك على سبيل البشارة له بأنه من أهل الجنة - يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث .

وقوله - تعالى - : { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين } استئناف بيانى لبيان ما قاله عند البشارة .

أى : قيل له ادخل الجنة بسبب إيمانك وعملك الصالح ، فرد وقال : يا ليت قومى الذين قتلونى ولم يسمعوا نصحى ، يعلمون بما نلته من ثواب من ربى ، فقد غفر لى - سبحانه - وجعلنى من المكرمين عنده ، بفضله وإحسانه . .

قال ابن كثير : ومقصوده - من هذا القول - أنهم لو اطلعوا على ما حصل عليه من ثواب ونعيم مقيم ، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل ، فرحمه الله ورضى عنه ، فلقد كان حريصا على هداية قومه .

روى ابن أبى حاتم أن عروة بن مسعود الثقفى ، قال للنبى صلى الله عليه وسلم : " ابعثنى إلى قومى أدعوهم إلى الإِسلام ، فقال له صلى الله عليه وسلم " إنى أخاف أن يقتلوك " فقال : يا رسول الله ، لو وجدونى نائما ما أيقظونى . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " انطلق إليهم " فانطلق إليهم ، فمر على اللات والعزى ، فقال : لأصْبِحَنك غدا بما يسؤوك ، فغضبت ثقيف فقال لهم : يا معشر ثقيف : أسلموا تسلموا - ثلاث مرات - . فرماه رجل منهم فأصاب أكْحَلَه فقتله - والأكحل : عرق فى وسط الذراع - فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال : " هذا مثله كمثل صاحب يس { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين } " .

وقال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله : { ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ . . } إنما تمنى علم قومه بحاله ، ليكون علمهم بما سببا لاكتساب مثلها لأنفسهم ، بالتوبة عن الكفر ، والدخول فى الإِيمان . . وفى حديث مرفوع : " نصح قومه حيا وميتا " .

وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه فى غمار الأشرار وأهل البغى ، والتشمر فى تخليصه ، والتلطف فى افتدائه ، والاشتغال بذلك عن الشماتة به ، والدعاء عليه ، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ، وللباغين له الغوائل وهم كفرة وعبدة أصنام .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ} (26)

قال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن ابن مسعود : إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره وقال الله له : { ادْخُلِ الْجَنَّةَ } ، فدخلها فهو يرزق منها ، قد أذهب الله عنه سُقْم الدنيا وحزنها ونَصَبها .

وقال مجاهد : قيل لحبيب النجار : ادخل الجنة . وذلك أنه قُتل فوجبت له{[24717]} ، فلما رأى الثواب { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } .

قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحا ، لا تلقاه غاشا ؛ لَمَّا عاين [ ما عاين ]{[24718]} من كرامة الله

{ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } . تمنى على الله أن يعلم قومه ما عاين من كرامة الله [ له ] ، {[24719]} وما هجم عليه .

وقال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله : { يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ } [ يس : 20 ] ، وبعد مماته في قوله : { يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } رواه ابن أبي حاتم .

وقال سفيان الثوري ، عن عاصم الأحول ، عن أبي مِجْلَز : { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } بإيماني بربي وتصديقي المرسلين .

ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم ، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل ، فرحمه الله ورضي عنه ، فلقد كان حريصا على هداية قومه .

قال{[24720]} ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا ابن جابر - وهو محمد - عن{[24721]} عبد الملك - يعني : ابن عمير - قال : قال عروة بن مسعود الثقفي للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني أخاف أن يقتلوك » . فقال : لو وجدوني نائما ما أيقظوني . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انطلق " . فانطلق فمر على اللات والعزى ، فقال : لأصبحَنَّك غدًا بما يسوءك . فغضبت ثقيف ، فقال : يا معشر ثقيف ، إن اللات لا لات ، وإن العُزى لا عُزى ، أسلموا تسلموا . يا معشر الأحلاف ، إن العزى لا عزى ، وإن اللات لا لات ، أسلموا تسلموا . قال ذلك ثلاث مرات ، فرماه رجل فأصاب أكْحَله فقتله ، فبلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هذا مثله كمثل صاحب يس ، { قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ }{[24722]}

وقال محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن مَعْمَر بن حَزْم : أنه حدث عن كعب الأحبار : أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم - أخو بني مازن بن النجار - الذي كان مسيلمة الكذاب قَطَّعه باليمامة ، حين جعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقول : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول : نعم . ثم يقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع . فيقول له مسيلمة : أتسمع هذا ولا تسمع ذاك ؟ فيقول : نعم . فجعل يُقَطِّعه عضوا عضوا ، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه . فقال كعب حين قيل له : اسمه حبيب ، وكان والله صاحب يس اسمه حبيب . {[24723]}


[24717]:- في ت، س، أ : "له الجنة".
[24718]:- زيادة من ت، أ.
[24719]:- زيادة من أ.
[24720]:- في ت : "روى".
[24721]:- في أ : "بن".
[24722]:- ورواه الحاكم في المستدرك (3/615) والطبراني في المعجم الكبير (17/148) من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، بنحوه. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/148) من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري، بنحوه. وقال الهيثمى في المجمع (9/386) : "وكلاهما مرسل، وإسنادهما حسن".
[24723]:- رواه الطبري في تفسيره (22/103).