التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفٞ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفٞ مَّبۡنِيَّةٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِيعَادَ} (20)

قوله - تعالى - : { لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ . . . } بيان لحسن عاقبة المؤمنين ، بعد بيان سوء عاقبة من حقت عليهم كلمة العذاب . .

والغرف جمع غرفة ، وتطلق على الحجرة التى تكون مرتفعة عن الأرض .

أى : هذا حال الذين عليهم كلمة العذاب ، أما حال الذين اتقوا ربهم فيختلف اختلافا تاما عن غيرهم ، فإن الله - تعالى - قد أعد لهم - على سبيل التكريم والتشريف - غرفا من فوقها غرف أخرى مبنية .

ووصفت بذلك الإِشارة إلى أنها معدة ومهيأة لنزولهم فيها ، قبل أن يقدموا عليها ، زيادة فى تكريمهم وحسن لقائهم .

وهذه الغرف جميعها { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } ليكون ذلك أدعى إلى زيادة سرورهم .

وقوله - تعالى - { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد } تذييل مؤكد لمضمون ما قبله من كون المتقين لهم تلك الغرف المبنية . ولفظ " وعد " مصدر منصوب بفعل مقدر .

أى : وعدهم - تعالى - بذلك وعدا لا يخلفه ، لأنه - سبحانه - ليس من شأنه أن يخلف الموعد الذى يعده لعباده .

وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث ، منها ما رواه الإِمام أحمد عن أبى مالك الأشعرى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن فى الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن أطعم الطعام ، وألان الكلام ، وتابع الصيام ، وصلى والناس نيام " .

وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد بشرت المتقين بأحسن البشارات وأكرمها ، وتوعدت المصرين على كفرهم وفجورهم باستحالة إنقاذهم من عذاب النار .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفٞ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفٞ مَّبۡنِيَّةٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِيعَادَ} (20)

وأمام مشهد هؤلاء في النار - وكأنهم فيها فعلا الآن . ما دام قد حق عليهم العذاب - يعرض مشهد الذين اتقوا ربهم ، وخافوا ما خوفهم الله :

( لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية ، تجري من تحتها الأنهار . وعد الله . لا يخلف الله الميعاد ) . .

ومشهد الغرف المبنية ، من فوقها غرف ، تجري الأنهار من تحتها . . هذا المشهد يتقابل مع مشهد ظلل النار هناك من فوقهم ومن تحتهم . هذا التقابل الذي ينسقه التعبير القرآني وهو يرسم المشاهد للأنظار .

ذلك وعد الله . ووعد الله واقع . لا يخلف الله الميعاد .

ولقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة . عاشوا هذه المشاهد فعلاً وواقعاً . فلم تكن في نفوسهم وعداً أو وعيداً يتلقونهما من مستقبل بعيد . إنما كان هذا وذلك واقعاً تشهده قلوبهم وتحسه وتراه . وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه . ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول ؛ وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بذلك الواقع الأخروي ، الذي كانوا يعيشونه ويحيون به وهم بعد في الحياة ! وهكذا ينبغي أن يتلقى المسلم وعد الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفٞ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفٞ مَّبۡنِيَّةٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِيعَادَ} (20)

ثم استفتح إخباراً آخر ب { لكن } وهذه معادلة وتخصيص على التقوى لمن فكر وازدجر .

وقوله تعالى : { من تحتها } أي من تحت الغرف ، وعادلت { غرف من فوقها غرف } ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم . والغرف : ما كان من المساكين مرتفعاً عن الأرض ، في الحديث : «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم كما يتراءون الكواكب الذي في الأفق » و { وعدَ الله } : نصب على المصدر ، ونصبه إما بفعل مضمر من لفظه ، وإما بما تضمن الكلام قبل من معنى الوعد على الاختلاف الذي للنحاة في ذلك .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفٞ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفٞ مَّبۡنِيَّةٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِيعَادَ} (20)

أعيدت بشارة الذين اجتنبوا الطاغوت تفصيلاً للإِجمال الواقع من قبل . وافتتح الإِخبار عنهم بحرف الاستدراك لزيادة تقرير الفارق بين حال المؤمنين وحال المشركين والمضادة بينهما ، فحرف الاستدراك هنا لمجرد الإِشعار بتضادّ الحالين ليعلم السامع أنه سيتلقى حكماً مخالفاً لما سبق كمَا تقدم في قوله تعالى : { ولكن انظر إلى الجبل } في سورة [ الأعراف : 143 ] ، وقوله : { ولكن كره اللَّه انبعاثهم } في سورة [ براءة : 46 ] ، فحصل في قضية الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت تقرير على تقرير ابتدىء بالإِشارتين في قوله : { أُولئِكَ الذينَ هداهُمُ الله وأُولئِكَ هم أُولوا الألبابِ } [ الزمر : 18 ] ثم بما أعقب من تفريع حال أضدادهم على ذكر أحوالهم ثم بالاستدراك الفارق بين حالهم وحال أضدادهم .

والمراد بالذين اتقوا ربهم : هم الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن القول واهتدوا بهدي الله وكانوا أولي ألباب ، فعدل عن الإِتيان بضميرهم هنا إلى الموصول لقصد مدحهم بمدلول الصلة وللإِيماء إلى أن الصلة سبب للحكم المحكوم به على الموصول وهو نوالهم الغرف . وعدل عن اسم الجلالة إلى وصف الرب المضاف إلى ضمير المتقين لما في تلك الإِضافة من تشريفهم برضى ربهم عنهم .

واللام في { لَهُمْ } للاختصاص . والمعنى : أَنها لهم في الجنة ، أي أعدت لهم في الجنة .

والغُرف : جمع غُرفة بضم الغين وسكون الراء ، وهي البيت المرتكز على بيت آخر ، ويقال لها العُلِّيّة ( بضم العين وكسرها وبكسر اللام مشدّدة والتحتية كذلك ) وتقدمت الغرفة في آخر سورة الفرقان ( 75 ) .

ومعنى { من فَوْقِهَا غُرَفٌ } أنها موصوفة باعتلاء غرف عليها وكل ذلك داخل في حيّز لام الاختصاص ، فالغرف التي فوق الغرف هي لهم أيضاً لأن ما فوق البناء تابع له وهو المسمّى بالهواء في اصطلاح الفقهاء . فالمعنى : لهم أطباق من الغُرف ، وذلك مقابل ما جعل لأهل النار في قوله : { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } [ الزمر : 16 ] .

وخولف بين الحالتين : فجعل للمتقين غرف موصوفة بأنها فوقها غرف ، وجعلت للمشركين ظُلل من النار ، وعطف عليها أنّ مِن تحتهم ظللاً للإِشارة إلى أن المتقين متنعمون بالتنقل في تلك الغرف ، وإلى أن المشركين محبوسون في مكانهم ، وأن الظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم لتتظاهر الظلل بتوجيه لفح النار إليه من جميع جهاتهم .

والمبنيّة : المسموكة الجدران بحَجر وجِصّ ، أو حَجر وتراب ، أو بطوب مُشمس ثم توضع عليها السُقُف ، وهذا نعت لغرف التي فوقها غرف . ويعلم منه أن الغرف المعتلَى عليها مبنية بدلالة الفحوى . وقد تردد المفسرون في وجه وصف الغرف مع أن الغرفة لا تكون إلا من بناء ، ولم يذهبوا إلى أنه وصف كاشف ولهم العذر في ذلك لقلة جدواه فقيل ذكر المبنية للدلالة على أنها غرف حقيقة لا أشياء مشابهة الغرف فرقاً بينهما وبين الظلل التي جعلت للذين خسروا يوم القيامة فإن ظللهم كانت من نار فلا يظن السامع أن غرف المتقين مجاز عن سحابات من الظلّ أو نحو ذلك لعدم الداعي إلى المجاز هنا بخلافه هنالك لأنه اقتضاه مقام التهكم .

وقال في « الكشاف » : { مَّبْنِيَةٌ } مثل المنازل اللاصقة للأرض ، أي فذكر الوصف تمهيد لقوله : { تَجْرِي مِن تحتها الأنهَارُ } لأن المعروف أن الأنهار لا تجري إلا تحت المنازل السفلية أي لم يفت الغرف شيء من محاسن المنازل السفلية .

وقيل : أريد أنها مهيّأة لهم من الآن . فهي موجودة لأن اسم المفعول كاسم الفاعل في اقتضائه الاتصاف بالوصف في زمن الحال فيكون إيماء إلى أن الجنة مخلوقة من الآن .

ويجوز عندي أن يكون الوصف احترازاً عن نوع من الغرف تكون نحتاً في الحَجر في الجبال مثل غرف ثمود ، ومثل ما يسمّيه أهل الجنوب التونسي غرفاً ، وهي بيوت منقورة في جبال ( مدنين ) و ( مطماطة ) و ( تطاوين ) وانظر هل تسمى تلك البيوت غرفاً في العربية فإن كتب اللغة لم تصف مسمّى الغرفة وصفاً شافياً . ويجوز أن يكون { مَّبْنِيَةٌ } وصفاً للغرف باعتبار ما دل عليه لفظها من معنى المبنيّ المعتلي فيكون الوصف دالاً على تمكن المعنى الموصوف ، أي مبنية بناء بالغاً الغاية في نوعه كقولهم : لَيل أليل ، وظلّ ظليل .

وجريُ الأنهار من تحتها من كمال حسن منظرها للمُطلّ منها . ومعنى { منْ تَحْتِها } أن الأنهار تمرّ على ما يجاور تحتها ، كما تقدم في قوله تعالى : { جنات تجري من تحتها الأنهار } في [ آل عمران : 15 ] ، فأطلق اسم تحت على مُجاورة .

ويجوز أن يكون المعنى : تجري من تحت أسسها الأنهار ، أي تخترق أسسها وتمر فيها وفي ساحاتها ، وذلك من أحسن ما يرى في الديار كديار دمشق وقصر الحمراء بالأندلس وديار أهل الترف في مدينة فاس فيكون إطلاق تحت حقيقة .

والمعنى : أن كل غرفة منها يجري تحتها نهر فهو من مقابلة الجمع ليُقسّم على الآحاد ، وذلك بأن يصعد الماء إلى كل غرفة فيجري تحتها .

و { وعْدَ الله } مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق مؤكد لنفسه لأن قوله : { لهُمْ غُرَفٌ } في معنى : وَعدهم الله غرفاً وعداً منه . ويجوز انتصابه على الحال من { غُرَفٌ } على حدّ قوله : { وعداً علينا } ، وإضافة { وَعْدَ } إلى اسم الجلالة مؤذنة بأنه وعد موفىً به فوقعت جملة { لا يُخْلِفُ الله المِيعَادَ } بياناً لمعنى { وَعْدَ الله } .

والميعاد : مصدر ميمي بمعنى الوعد .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ لَهُمۡ غُرَفٞ مِّن فَوۡقِهَا غُرَفٞ مَّبۡنِيَّةٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ لَا يُخۡلِفُ ٱللَّهُ ٱلۡمِيعَادَ} (20)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"لَكِنِ الّذِينَ اتّقُوْا رَبّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيّةٌ" يقول تعالى ذكره: لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه واجتناب محارمه، لهم في الجنة غرف من فوقها غرف مبنية علاليّ بعضها فوق بعض،

"تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ "يقول تعالى ذكره: تجري من تحت أشجار جناتها الأنهار. وقوله: "وَعَدَ اللّه" يقول جلّ ثناؤه: وعدنا هذه الغرف التي من فوقها غرف مبنية في الجنة، هؤلاء المتقين.

"لا يُخْلفُ اللّهُ المِيعادَ" يقول جلّ ثناؤه: والله لا يخلفهم وعده، ولكنه يوفي بوعده.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

بين الذين أنقذوا من النار وهم الذين اتقوا ربهم حين قال: {لكن الذين اتقوا ربهم} أي اتقوا مخالفة ربهم ونقمته، ثم بين ما أوعد لهم في الآخرة، فقال عز وجل: {لهم غرف من فوقها غرف مبنية} ذكر أن لهم غرفا في الجنة، والغرف في الشاهد إنما تتخذ لضيق المكان، لكن ذلك في الجنة ليس كذلك، ولكن لما كان الله عز وجل عرف من رغبة الناس في الدنيا في الارتفاع والعلو والكرامة والتفضيل على الانحدار في الأرض؛ رغبهم في الآخرة على ما رغبوا، وأحبوا في الدنيا، ولكن لأهل الدرجات، ولأهل النار الدركات...

{تجري من تحتها الأنهار} يخبر أن أمر أهل الجنة على خلاف أمر أهل الدنيا؛ إذ في الدنيا؛ كل ما ارتفع وعلا من البنيان كان الماء منه أبعد والوصول إليه أصعب. فأخبر أنهم، وإن كانوا في الغرف والدرجات، فأبصارهم إنما تقع على الماء، والماء لا يبعد عنهم، ولا يصعب.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

ثم فسر وبين ما أعده للمؤمن كما فسر ما أعده للكافرين فقال "لكن الذين اتقوا ربهم "يعني اتقوا معاصيه.

"لهم غرف من فوقها غرف مبنية" في مقابلة ما قال للكافرين لهم من فوقهم ظلل من النار، ومن تحتهم ظلل لأنها تنقلب عليهم.

قيل: المعنى لهم منازل رفيعة في الجنة وفوقها منازل أرفع منها، فللمؤمنين الغرف.

" لا يخلف الله الميعاد"... ولا يكون بخلاف ما اخبر به...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... {وعد الله لا يخلف الله الميعاد} في الآية دقيقة شريفة، وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد البتة مثل هذا التأكيد والتقوية...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة، وهي القصور الشاهقة.

{مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ}: طباق فوق طباق، مَبْنيات محكمات مزخرفات عاليات. قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر وأبو كامل قالا حدثنا زهير، حدثنا سعد الطائي حدثنا أبو المدَلَّة -مولى أم المؤمنين- أنه سمع أبا هريرة يقول: قلنا: يا رسول الله، إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشَممْنَا النساء والأولاد، قال: «لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم. ولو لم تُذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم». قلنا: يا رسول الله، حَدّثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: «لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ فضّة، وملاطها المسك الأذْفَر، وحَصْباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يَبْأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. ثلاثة لا تُرَدَّ دعوتُهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم تُحمَل على الغَمام، وتفتح لها أبواب السموات، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين»، وروى الترمذي، وابنُ ماجه بعضَه، من حديث سعد أبي مجاهد الطائي -وكان ثقة- عن أبي المُدَلِّه -وكان ثقة- به...

{تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ}: تسلك الأنهار بين خلال ذلك، كما يشاءوا وأين أرادوا...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما بين أن من عبد الأنداد هالك لخروجه عن دائرة العقل بجرأة وعدم تدبير، بين ما لأضدادهم، فقال صارفاً القول عن الاسم الأعظم إلى وصف الإحسان إشارة إلى كرم المتقين؛ بما لهم من إصالة الرأي التي أوجبت خوفهم مع تذكر الإحسان ليدل، على أن خوفهم عند تذكر الانتقام أولى: {لكن الذين اتقوا ربهم} أي جعلوا بينهم وبين سخط المحسن إليهم وقاية في كل حركة وسكنة، فلم يفعلوا شيئاً من ذلك إلا بنظر يدلهم على رضاه.

{لهم غرف}... لما كانت الغرف في قرار تقر به العيون لم يقل "من فوقهم "كما قال في أهل النار وقال: {من فوقها غرف} أي شديدة العلو.

ولما كان ربما ظن أن الطبقة الثانية السماء؛ لأن الغرفة أصلها العالي، ولذلك سميت السماء السابعة غرفة، وأن تكون الغرفة مثل ظلل النار ليس لها قرار، قال تحقيقاً للحقيقة مفرداً كما هو المطرد في وصف جمع الكثرة لما لا يعقل:

{مبنية}.

ولما كانت المنازل لا تطيب إلا بالماء، وكان الجاري أشرف وأحسن قال: {تجري من تحتها} أي الغرف من الطبقة السفلى والطبقة العليا من غير تفاوت بين العلو والسفل؛ لأن القدرة صالحة لأكثر من ذلك {الأنهار}.

ولما ذكر يوم القيامة وما يكون فيه، بين أنه أمر لا بد منه بقوله، راداً السياق إلى الاسم الأعظم الذي لا يتصور مع استحضار ما له من الجلال إخلاف: {وعد الله} مؤكداً لمضمون الجملة بصيغة المصدر الدال على الفعل الناصب له، وهو واجب الإضمار والإضافة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع الصفات، ثم أتبع ذلك بيان ما يلزم من كونه وعده بقوله على سبيل النتيجة: {لا يخلف الله} أي الملك الذي لا شريك له يمنعه من شيء يريده.

ولما كان الرعي لزمان الوعد ومكانه إنما يكون للمحافظة عليه فهو أبلغ من رعيه نفسه، عبر بالمفعال فقال: {الميعاد} لأنه لا سبب أصلاً يحمله على الإخلاف...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

قال بعض فضلاء إخواننا المعاصرين: فائدة التوصيف بما ذكر الإشارة إلى رفعة شأن الغرف حيث آذن أن الله تعالى بانيها وماذا عسى يقال في بناء بناه الله جل وعلا.

وأقول والله تعالى أعلم: وصفت الغرف بذلك للإشارة إلى أنها مهيأة معدة لهم قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة لهم، وفي ذلك من تعظيم شأن المتقين ما فيه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة. عاشوا هذه المشاهد فعلاً وواقعاً. فلم تكن في نفوسهم وعداً أو وعيداً يتلقونهما من مستقبل بعيد. إنما كان هذا وذلك واقعاً تشهده قلوبهم وتحسه وتراه. وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه. ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول؛ وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بذلك الواقع الأخروي، الذي كانوا يعيشونه ويحيون به وهم بعد في الحياة! وهكذا ينبغي أن يتلقى المسلم وعد الله.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أعيدت بشارة الذين اجتنبوا الطاغوت تفصيلاً للإِجمال الواقع من قبل، وافتتح الإِخبار عنهم بحرف الاستدراك لزيادة تقرير الفارق بين حال المؤمنين وحال المشركين والمضادة بينهما، فحرف الاستدراك هنا لمجرد الإِشعار بتضادّ الحالين ليعلم السامع أنه سيتلقى حكماً مخالفاً لما سبق كمَا تقدم في قوله تعالى: {ولكن انظر إلى الجبل} في سورة [الأعراف: 143].

الذين اتقوا ربهم: هم الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن القول واهتدوا بهدي الله وكانوا أولي ألباب، فعدل عن الإِتيان بضميرهم هنا إلى الموصول؛ لقصد مدحهم بمدلول الصلة، وللإِيماء إلى أن الصلة سبب للحكم المحكوم به على الموصول وهو نوالهم الغرف، وعدل عن اسم الجلالة إلى وصف الرب المضاف إلى ضمير المتقين؛ لما في تلك الإِضافة من تشريفهم برضى ربهم عنهم. اللام في {لَهُمْ} للاختصاص، والمعنى: أَنها لهم في الجنة، أي أعدت لهم في الجنة. والغُرف: جمع غُرفة بضم الغين وسكون الراء، وهي البيت المرتكز على بيت آخر، ويقال لها العُلِّيّة، ومعنى {من فَوْقِهَا غُرَفٌ} أنها موصوفة باعتلاء غرف عليها وكل ذلك داخل في حيّز لام الاختصاص، فالغرف التي فوق الغرف هي لهم أيضاً؛ لأن ما فوق البناء تابع له وهو المسمّى بالهواء في اصطلاح الفقهاء، فالمعنى: لهم أطباق من الغُرف.

المبنيّة: المسموكة الجدران بحَجر وجِصّ أو حَجر وتراب أو بطوب مُشمس، ثم توضع عليها السُقُف، وهذا نعت للغرف التي فوقها غرف، ويعلم منه أن الغرف المعتلَى عليها مبنية بدلالة الفحوى.

وقد تردد المفسرون في وجه وصف الغرف مع أن الغرفة لا تكون إلا من بناء، ولم يذهبوا إلى أنه وصف كاشف.

ويجوز عندي أن يكون الوصف احترازاً عن نوع من الغرف تكون نحتاً في الحَجر في الجبال مثل غرف ثمود.

ويجوز أن يكون {مَّبْنِيَةٌ} وصفاً للغرف باعتبار ما دل عليه لفظها من معنى المبنيّ المعتلي فيكون الوصف دالاً على تمكن المعنى الموصوف، أي مبنية بناء بالغاً الغاية في نوعه كقولهم: لَيل أليل، وظلّ ظليل...

وجريُ الأنهار من تحتها من كمال حسن منظرها للمُطلّ منها، ومعنى {منْ تَحْتِها} أن الأنهار تمرّ على ما يجاور تحتها، كما تقدم في قوله تعالى: {جنات تجري من تحتها الأنهار} في [آل عمران: 15]، فأطلق اسم تحت على مُجاورة...

ويجوز أن يكون المعنى: تجري من تحت أسسها الأنهار، أي تخترق أسسها وتمر فيها وفي ساحاتها، وذلك من أحسن ما يرى في الديار كديار دمشق وقصر الحمراء بالأندلس وديار أهل الترف في مدينة فاس فيكون إطلاق تحت حقيقة...

والمعنى: أن كل غرفة منها يجري تحتها نهر، فهو من مقابلة الجمع ليُقسّم على الآحاد، وذلك بأن يصعد الماء إلى كل غرفة فيجري تحتها...