ثم بين سبحانه - أن هؤلاء الكافرين عادتهم في كفرهم وطغيانهم كعادة من سبقهم من الأمم الظاملة وإن من سنة الله - تعالى - في خلقه ألا يعاقب إلا بذنب ، وألا يغير النعمة إلا لسبب . فقال - تعالى - : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ . . . كَانُواْ ظَالِمِينَ } .
والكاف في قوله : { كَدَأْبِ } ، للتشبيه ، والجار والمجرور في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف .
والدأب : أصله الدوام والاستمرار ، يقال : دأب فلان على كذا يدأب دأباً - بفتح الهمزة - ودأباً - بسكونها - ودؤوباً ، إذا دوام عليها وجد فيها ، ثم غلب استعماله في الحال والشأن والعادة ، لأن الذي يستمر في عمل أمدا طويلا يصير هذا العمل عادة من عاداته ، وحالا من أحواله ، فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم .
والآل - كما يقول الراغب - مقلوب عن الأهل ، ويصغر على أهيل ، إلا أنه خص بالإِضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال : آل فلان ، ولا يقال : آل رجل ، ولا يقال : آل الحجام . . بل يضاف إلى الأشرف والأفضل يقال : آل الله ، وآل السلطان ، والأهل يضاف إلى الكل ، فيقال : أهل الله ، وأهل الحجام ، وأهل زمان كذا . .
والمقصود بآل فرعون : هو وأعوانه وبطانته ، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاص بالمضاف إليه .
والمعنى : شأن هؤلاء الكافرين الذين حاربوك يا محمد ، والذين هلك منهم من هلك في بدر ، شأنهم وحالهم وعادتهم فيما اقترفوه من الكفر والعصيان وفيما فعل بهم من عذاب وخذلان ، كشأن آل فرعون الذين استحبوا العمى على الهدى ، والذين زينوا له الكفر والطغيان حتى صار عادته له ولهم ، وقد أخذهم - سبحانه - أخذ عزيز مقتدر ، بسبب كفرهم وفجورهم .
وقد خص - سبحانه - فرعون وآله بالذكر من بين الأمم الكافرة ، لأن فرعون كان أشد الطغاة طغيانا ، وأكثرهم غرورا وبطرا ، وأكثرهم في الاستهانة بقومه وفى الاحتقار لعقولهم وكيانهم .
ألم يقل لهم - كما حكى القرآن عنه - { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } وألم يبلغ به غروره أن يقول لهم : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أما آله وبطانته وأعوانه ، فهم الذين زينوا له السوء ، وحرضوه على البطش بموسى لأنه جاءهم بالحق ، ولقد حكى الله عنهم نفاقهم وضلالهم وانغماسهم في الآثام في آيات كثيرة ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } ولقد وصف الله - تعالى - قوم فرعون بهوان الشخصية ، وتفاهة العقل ، والخروج عن كل مكرمة فقال : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } وذلك لأن الأمة التي تترك الظالم وبطانته يعيثون في الأرض فساداً ، لا تستحق الحياة ، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران .
وقوله { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } تفسير لصنيعهم الباطل ، ودأبهم على الفساد والضلال .
والمراد بآيات الله : ما يعم المتلوة في كتب الله - تعالى - ، والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم .
وفى إضافتها إلى الله : تعظيم لها وتشريف ، وتنبيه إلى قوة دلالتها على الحق والخير .
وقوله : { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } معطوف على قوله { كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } لبيان ما ترتب على كفرهم من عقوبات أليمة .
وفى التعبير بالأخذ إشارة إلى شدة العذاب ، فهو - سبحانه - قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذي لا يستطيع الفكاك من آسره .
والباء في قوله : { بِذُنُوبِهِمْ } للسببية أي كفروا بآيات الله فعاقبتهم - سبحانه - بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمره .
ويجوز أن تكون للملابسة ، أى : أخذهم وهم تلبسون بذنوبهم دون أن يثوبوا منها ، أو يقلعوا عنها .
وعلى الوجهين فالجملة الكريمة تدل على كمال عدل الله - تعالى - لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم استحقوا العقاب .
والمراد بذنوبهم : كفرهم وما ترتب عليه من فسوق وعصيان ، وأصل الذنب : الأخذ بذنب الشئ أي بمؤخرته ، ثم أطلق على الجريمة ، لأن مرتكبها يعاقب بعدها .
وقوله : { إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ الشديد ، بسبب الكفر والمعاصى .
أى : إن الله - تعالى - قوى لا يغلبه غالب ، ولا يدفع قضاءه دافع ، شديد عقابه لمن كفر بآياته ، وفسق عن أمره .
وننتقل من هذه الوقفة الخاطفة ، مع السياق في انتقاله إلى تقرير الحقيقة الكلية وراء هذا المشهد . . إن أخذ الذين كفروا بالمهانة والعذاب ، سنة ماضية لا تتخلف ولا تتبدل ؛ فهذا هو المصير المحتوم الذي جرت به السنة من قديم :
( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ؛ كفروا بآيات الله ، فأخذهم الله بذنوبهم ، إن الله قوي شديد العقاب ) . .
إن الله - سبحانه - لا يكل الناس إلى فلتات عابرة ، ولا إلى جزاف لا ضابط له . . إنما هي سنته يمضي بها قدره . . وما أصاب المشركين في يوم بدر ، هو ما يصيب المشركين في كل وقت ؛ وقد أصاب آل فرعون والذين من قبلهم :
( كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم ) . .
وقوله { كدأب آل فرعون } الآية ، الدأب : العادة في كلام العرب ، ومنه قول امرىء القيس : [ الطويل ]
كدأبك من أم الحويرث قبلها*** وجارتها أم الرباب بمأسل{[5413]}
ويروى كدينك ، ومنه قول خراش بن زهير العامري :
فما زال ذاك الدأب حتى تخاذلت*** هوازن وارفضَّت سليم وعامر
وهو مأخوذ من دأب على العمل إذا لزمه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لصاحب الجميل الذي هش إليه وأقبل نحوه وقد ذل ودمعت عيناه : «إنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه{[5414]} » فكأن العادة ُدؤوب ما .
وقال جابر بن زيد وعامر الشعبي ومجاهد وعطاء : المعنى كسنن آل فرعون ، ويحتمل أن يراد كعادة آل فرعون وغيرهم ، فتكون عادة الأمم بجملتها لا على انفراد أمة ، إذ آل فرعون لم يكفروا وأهلكوا مراراً بل لكل أمة مرة واحدة ، ويحتمل أن يكون المراد كعادة الله فيهم ، فأضاف العادة إليهم إذ لهم نسبة إليها يضاف المصدر إلى الفاعل وإلى المفعول ، والكاف من قوله { كدأب } يجوز أن يتعلق بقوله { وذوقوا } وفيه بعد ، والكاف على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، ويجوز أن تتعلق بقوله { قدمت أيديكم } وموضعها أيضاً على هذا نصب كما تقدم ، ويجوز أن يكون معنى الكلام الأمر مثل دأب آل فرعون فتكون الكاف في موضع خبر الابتداء ، وقوله { فأخذهم } معناه أهلكهم وأتى عليهم بقرينة قوله { بذنوبهم } ثم ابتدأ الإخبار بقوة الله تعالى وشدة عقابه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.