ثم بين - سبحانه - حال الأنعام ، وأبطل ما تقولوه عليه فى شأنها بالتحريم والتحليل فقال : { وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً } .
الحمولة ، هى الأنعام الكبار الصالحة للحمل . والفرش هى صغارها الدانية من الأرض ، مثل الفرش المفروش عليها .
وقيل الحمولة كل ما حمل عليه من إبل وبقر وبغل وحمار . والفرش ما اتخذ من صوفه ووبره وشعره ما يفرش .
أى : وأنشأ لكم - سبحانه - من الأنعام حمولة وهى ما تحمولن عليه أثقالكم ، كما أنشأ لكم منها فرشا وهى صغارهاه التى تفرش للذبائح من الضأن والمعز والإبل والبقر .
والجملة معطوفة على جنات ، والجهة الجامعة بينهما إباحة الانتفاع بهما .
وقوله { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .
أى : كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار والزروع والأنعام وغيرها ، وانتفعوا منها بسائر أنواع الانتفاع المشروعة ، ولا تتبعوا وساوس الشيطان وطرقه فى التحريم والتحليل كما أتبعها أهل الجاهلية ، إذ حرموا ما رزقهم الله افتراء عليه ، إن الشيطان عداوته ، ظاهرة واضحة لكم ، فهو يمنعكم مما يحفظ روحكم ، ويطهر قلوبكم ، فالجملة الكريمة { إِنَّهُ لَكُمْ } تعليل للنهى عن اتباع خطوات الشيطان .
بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها ، والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله : ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ) . . يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات ؛ ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها . . إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام ، متاعا للناس ونعمة ؛ ذرأها لهم ليشكروا له ؛ ويعبدوه - وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم ، فهو الغني ذو الرحمة ؛ إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم - فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً ، فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام ؟ وما بالهم يجعلون لله نصيبا ، ولأولئك نصيبا ، ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون - تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين-في النصيب الذي جعلوه لله ؟ !
إن الخالق الرازق هو الرب المالك . الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه . وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده ، لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله !
( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، والنخل والزرع مختلفا أكله ، والزيتون والرمان ، متشابها وغير متشابه . كلوا من ثمره إذا أثمر ، وآتوا حقه يوم حصاده ، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين . ومن الأنعام حمولة وفرشا . كلوا مما رزقكم الله ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين ) .
إن الله - سبحانه - هو الذي خلق هذه الجنات ابتداء - فهو الذي أخرج الحياة من الموات - وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التي يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط ؛ ومنها البريات التي تنبت بذاتها - بقدر الله - وتنمو بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم . وإن الله هو الذي أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال . وإن الله هو الذي خلق الزيتون والرمان ، منوع الصنوف متشابها وغير متشابه ، وإنه - سبحانه - هو الذي خلق هذه الأنعام وجعل منها( حمولة ) عالية القوائم بعيدة في الأرض حمالة للأثقال . وجعل منها ( فرشا ) صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش . .
إنه هو - سبحانه - الذي بث الحياة في هذه الأرض ؛ ونوّعها هذا التنويع ؛ وجعلها مناسبة للوظائف التي تتطلبها حياة الناس في الأرض . . فكيف يذهب الناس - في مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق - إلى تحكيم غير الله في شأن الزروع والأنعام والأموال ؟
إن المنهج القرآني يكثر من عرض حقيقة الرزق الذي يختص الله بمنحه للناس ، ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة الناس . فإن الخالق الرازق الكافل وحده ؛ هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده . . بلا جدال :
وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار ، ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله . . يحشد هذه المؤثرات في صدد قضية الحاكمية ، كما حشدها من قبل في صدد قضية الألوهية . . فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة في العقيدة الإسلامية .
وعندما يذكر الزروع والثمار يقول :
( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ، إنه لا يحب المسرفين ) . .
والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدنية . وقد قلنا في التقديم للسورة : إن الآية مكية ، لأن السياق في الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية . فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت في المدينة . وهذا الأمر بإيتاء حق الزرع يوم حصاده ، لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة . وهناك روايات في الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة . . أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك في السنة الثانية من الهجرة . .
( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . .
ينصرف إلى العطاء ، كما ينصرف إلى الأكل . فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا ، فقال الله سبحانه : ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . .
كلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، إنه لكم عدو مبين . .
ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه ، والشيطان لم يخلق شيئا . فما بالهم يتبعونه في رزق الله ؟ ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين . فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين ؟ !
وقوله : { وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } أي : وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش ، قيل : المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل ، والفرش الصغار منها . كما قال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : { حَمُولَةً } ما حمل عليه من الإبل ، { وَفَرْشًا } وقال : الصغار من الإبل .
رواه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وقال ابن عباس : الحمولة : الكبار ، والفرش [ هي ]{[11277]} الصغار من الإبل . وكذا قال مجاهد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } فأما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه ، وأما الفرش فالغنم .
واختاره ابن جرير ، قال : وأحسبه إنما سمي فرشًا لدنوه من الأرض .
وقال الربيع بن أنس ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة : الحمولة : الإبل والبقر ، والفرش : الغنم .
وقال السدي : أما الحمولة فالإبل ، وأما الفرش فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم ، وما حمل عليه فهو حمولة .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الحمولة ما تركبون ، والفرش ما تأكلون وتحلبون ، شاة لا تحمل ، تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافًا وفرشا{[11278]} .
وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71 ، 72 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ] }{[11279]} إلى أن قال : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [ النحل : 69 - 80 ] ، وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ } [ غافر : 79 - 81 ] .
وقوله تعالى : { كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي : من الثمار والزروع والأنعام ، فكلها خلقها الله [ تعالى ]{[11280]} وجعلها رزقًا لكم ، { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : طرائقه وأوامره ، كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله ، أي : من الثمار والزروع افتراء على الله ، { إِنَّهُ لَكُمْ } أي : إن الشيطان - أيها الناس - لكم { عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي : بَيِّن ظاهر العداوة ، كما قال تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] ، وقال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا } الآية ، [ الأعراف : 27 ] ، وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [ الكهف : 50 ] . والآيات في هذا كثيرة في القرآن .
{ ومن الأنعام حمولة وفرشا } عطف على جنات أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح ، أو ما يفرش المنسوج من شعره وصوفه ووبره . وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها . { كلوا مما رزقكم الله } كلوا مما أحل لكم منه . { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } في التحليل والتحريم من عند أنفسكم . { إنه لكم عدو مبين } ظاهرة العداوة .
عُطف : { حمولة } على : { جنات معروشات } [ الأنعام : 141 ] أي : وأنشأ من الأنعام حمولة وفَرْشاً ، فينسحب عليه القصر الّذي في المعطوف عليه ، أي هو الّذي أنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً لا آلهة المشركين ، فكان المشركون ظالمين في جعلهم للأصنام حقّاً في الأنعام .
و ( مِنْ ) في قوله : { ومن الأنعام } ابتدائيّة لأنّ الابتداء معنى يصلح للحمولة وللفرش لأنَّه أوسع معاني ( مِن ) . والمجرور : إمَّا متعلّق ب { أنشأ } [ الأنعام : 141 ] ، وإمَّا حال من { حمولة } أصلها صفة فلمّا قدمت تحوّلت .
وأيًّا ما كان فتقديم المجرور على المفعول الّذي هو أولى بالتّقديم في ترتيب المتعلّقات ، أو تقديمُ الصّفة على الموصوف ، لقصد الاهتمام بأمر الأنعام ، لأنَّها المقصود الأصلي من سياق الكلام ، وهو إبطال تحريم بعضها ، وإبطالُ جعل نصيب منها للأصنام ، وأمَّا الحمل والفَرْش فذلك امتنان أُدمج في المقصود توفيراً للأغراض ، ولأنّ للامتنان بذلك أثراً واضحاً في إبطال تحريم بعضها الّذي هو تضييق في المنّة ونبذ للنّعمة ، وليتمّ الإيجاز إذ يغني عن أن يقول : وأنشأ لكم الأنعام وأنشأ منها حمولة وفرشاً ، كما سيأتي .
والأنعام : الإبل ، والبقر ، والشّاء ، والمعز ، وقد تقدّم في صدر سورة العقود ، والحمولة بفتح الحاء ما يحمل عليه المتاع أو النّاس يقال : حمل المتاع وحمل فلاناً ، قال تعالى : { إذا ما أتَوْك لتحملهم } [ التوبة : 92 ] ويلزمها التّأنيث ، والإفراد مثل ( صَرورة ) للّذي لم يحجّ يقال : امرأة صَرورة ورجل صّرورة .
والفرش : اختلف في تفسيره في هذه الآية . فقيل : الفرش ما لا يُطيق الحَمل من الإبل أي فهو يركب كما يُفرش الفَرش ، وهذا قول الراغب . وقيل : الفَرش الصّغار من الإبل أو من الأنعام كلّها ، لأنَّها قريبة من الأرض فهي كالفرش ، وقيل : الفرش ما يذبح لأنّه يفرش على الأرض حين الذبح أو بعده ، أي فهو الضان والمعز والبقر لأنَّها تذبح . وفي « اللّسان » عن أبي إسحاق : أجمع أهل اللّغة على أنّ الفرش هو صغار الإبل .
زاد في « الكشاف » : « أو الفَرْش : ما يُنْسَج من وبره وصوفه وشَعْره الفرْش » يريد أنه كما قال تعالى : { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ النحل : 80 ] ، وقال : { والأنعام خلقها لكم فيها دِفْءٌ ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم } [ النحل : 5 7 ] الآية ، ولأنَّهم كانوا يفترشون جلود الغنم والمعز للجلوس عليها .
ولفظ { فرشا } صالح لهذه المعاني كلّها ، ومحامله كلّها مناسبة للمقام ، فينبغي أن تكون مقصودة من الآية ، وكأنّ لفظ الفرش لا يوازنه غيره في جمع هذه المعاني ، وهذا من إعجاز القرآن من جانب فصاحته ، فالحمولة الإبل خاصّة ، والفَرش يكون من الإبل والبقر والغنم على اختلاف معاني اسم الفرش الصّالحة لكلّ نوع مع ضميمته إلى كلمة ( من ) الصالحة للابتداء .
فالمعنى : وأنشأ من الأنعام ما تحملون عليه وتركبونه ، وهو الإبل الكبيرة والإبل الصّغيرة ، وما تأكلونه وهو البقر والغنم ، وما هو فرش لكم وهو ما يُجزّ منها ، وجلودها .
وقد علم السّامع أنّ الله لمّا أنشأ حمولة وفرشاً من الأنعام فقد أنشأ الأنعام أيضاً ، وأول ما يتبادر للنّاس حين ذكر الأنعام أن يتذكّروا أنَّهم يأكلون منها ، فحصل إيجاز في الكلام ولذلك عقّب بقوله : { كلوا مما رزقكم الله } .
وجملة : { كلوا مما رزقكم الله } معترضة مثل آية : { كلوا من ثمره إذا أثمر } [ الأنعام : 141 ] . ومناسبة الأمر بالأكل بعد ذكر الأنعام : أنَّه لمّا كان قوله : { وفرشا } شيئاً ملائماً للذّبح ، كما تقدّم ، عقّب بالإذن بأكل ما يصلح للأكل منها . واقتصر على الأمر بالأكل لأنَّه المقصود من السّياق إبطالاً لتحريم ما حرّموه على أنفسهم ، وتمهيداً لقوله : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } فالأمر بالأكل هنا مستعمل في النَّهي عن ضدّه وهو عدم الأكل من بعضها ، أي لا تحرّموا ما أحلّ لكم منها اتّباعاً لتغرير الشّيطان بالسوسوسة لزعماء المشركين الّذين سنّوا لهم تلك السّنن الباطلة ، وليس المراد بالأمر الإباحة فقط .
وعدل عن الضّمير بأن يقول : كلوا مِنها : إلى الإتيان بالموصول ، { مما رزقكم الله } لما في صلة الموصول من الإيماء إلى تضليل الّذين حرّموا على أنفسهم ، أو على بعضهم ، الأكل من بعضها ، فعطّلوا على أنفسهم بعضاً ممّا رزقهم الله .
ومعنى : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } النّهي عن شؤون الشّرك فإنّ أول خطوات الشّيطان في هذا الغرض هي تسويلهُ لهم تحريم بعض ما رزقهم الله على أنفسهم . وخطوات الشّيطان تمثيل ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { يأيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيّباً ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان } في سورة البقرة ( 168 ) .
وجملة : { إنه لكم عدوٌ مبين } تعليل للنّهي ، وموقع ( إنّ ) فيه يغني عن فاء التّفريع كما تقدّم غير مرّة ، وقد تقدّم بيانه في آية البقرة .