وبعد هذه اللفتة المفزعة المنذرة لهم يعود إلى الحديث عنهم لو انتهوا إلى هذا الذي حذرهم إياه :
( أولئك الذين لعنهم الله ، فأصمهم وأعمى أبصارهم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ? ) .
أولئك الذين يظلون في مرضهم ونفاقهم حتى يتولوا عن هذا الأمر الذي دخلوا فيه بظاهرهم ولم يصدقوا الله فيه ، ولم يستيقنوه . ( أولئك الذين لعنهم الله ) . . وطردهم وحجبهم عن الهدى ، ( فأصمهم وأعمى أبصارهم ) . . وهم لم يفقدوا السمع ، ولم يفقدوا البصر ؛ ولكنهم عطلوا السمع وعطلوا البصر ، أو عطلوا قوة الإدراك وراء السمع والبصر ؛ فلم يعد لهذه الحواس وظيفة لأنها لم تعد تؤدي هذه الوظيفة .
وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما ، وعن قطع الأرحام خصوصا ، بل قد أمر [ الله ] {[26681]} تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام ، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال . وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من طرق عديدة ، ووجوه كثيرة .
قال البخاري : حدثنا خالد بن مَخْلَد ، حدثنا سليمان ، حدثني معاوية بن أبي مُزَرّد ، عن سعيد بن يسار{[26682]} ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلق الله الخلق ، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل ، فقال : مه ! فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . فقال : ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى . قال : فذاك {[26683]} . قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } {[26684]} .
ثم رواه البخاري من طريقين آخرين ، عن معاوية بن أبي مزرد ، به . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرؤوا إن شئتم : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } {[26685]} ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد ، به{[26686]} .
وقال{[26687]} الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل أخبرنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن ، عن أبيه ، عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من ذنب أحرى أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم " .
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من حديث إسماعيل - هو ابن عُلَية - به{[26688]} . وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .
وقال{[26689]} الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ، حدثنا محمد بن عباد المخزومي ، عن ثوبان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره النِّساء في الأجل ، والزيادة في الرزق ، فليصل رحمه " {[26690]} . تفرد به أحمد ، وله شاهد في الصحيح .
وقال{[26691]} أحمد أيضا : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي ذوي أرحام ، أصل ويقطعون ، وأعفو ويظلمون ، وأحسن ويسيئون ، أفأكافئهم ؟ قال : " لا إذن تتركون جميعا ، ولكن جُدْ بالفضل وصلهم ؛ فإنه لن يزال معك ظهير من الله ، عز وجل ، ما كنت على ذلك " {[26692]} .
تفرد به من هذا الوجه ، وله شاهد{[26693]} من وجه آخر .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يَعْلَى ، حدثنا فِطْر ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو{[26694]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرحم معلقة بالعرش ، وليس الواصل بالمكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " ، رواه البخاري{[26695]} {[26696]} .
وقال أحمد : حدثنا بهز ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا قتادة ، عن أبي ثمامة الثقفي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنَة كحجنة المغزل ، تتكلم بلسان طُلَق ذُلَق ، فتصل من وصلها وتقطع من قطعها " {[26697]} .
وقال{[26698]} الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، عن أبي قابوس ، عن عبد الله بن عمرو - يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض{[26699]} يرحمكم أهل السماء ، والرحم شُجْنَة من الرحمن ، من وصلها وصلته ، ومن قطعها بتته " .
وقد رواه أبو داود {[26700]} والترمذي ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، به {[26701]} . وهذا هو الذي يروي بتسلسل الأولية{[26702]} ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا هشام الدَّسْتَوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ ، أن أباه حدثه : أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف وهو مريض ، فقال له عبد الرحمن : وصلتك رَحمٌ ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : أنا الرحمن ، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي ، فمن يصلها أصله ، ومن يقطعها أقطعه فأبته - أو قال : من يبتها أبته " .
تفرد به من هذا الوجه{[26703]} . ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري ، عن أبي سلمة ، عن الرداد أو أبي الردّاد - عن عبد الرحمن بن عوف ، به{[26704]} . ورواه أبو داود والترمذي ، من رواية أبي سلمة ، عن أبيه{[26705]} . والأحاديث في هذا كثيرة .
وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن عبد الله بن علاثة{[26706]} ، عن الحجاج بن الفُرَافِصَة ، عن أبي عمر البصري ، عن سلمان {[26707]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأرواح جنود مجندة ، فما تَعارف منها ائتلف/ ، وما تناكر منها اختلف " {[26708]} .
وبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا ظهر القول ، وخزن العمل ، وائتلفت الألسنة ، وتباغضت القلوب ، وقطع كل ذي رحم رحمه ، فعند ذلك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم " {[26709]} .
وقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين يفعلون هذا ، يعني الذين يفسدون ويقطعون الأرحام الذين لعنهم الله ، فأبعدهم من رحمته فأصمهم ، يقول : فسلبهم فَهْمَ ما يسمعون بآذانهم من مواعظ الله في تنزيله وأعْمَى أبْصَارَهُمْ يقول : وسلبهم عقولهم ، فلا يتبيّنون حُجج الله ، ولا يتذكّرون ما يرون من عبره وأدلته .
الإشارة إلى الذين في قلوبهم مرض على أسلوب قوله آنفاً : { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } [ محمد : 16 ] ولا يصح أن تكون الإشارة إلى ما يؤخذ من قوله : { أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } [ محمد : 22 ] لأن ذلك لا يستوجب اللعنة ولا أن مرتكبيه بمنزلة الصمّ ، على أن في صيغة المضيّ في أفعال : لعنهم ، وأصمّهم ، وأعمى ، ما لا يلاقي قوله : { فهل عَسِيتم } [ محمد : 22 ] ولا ما في حرف ( إنْ ) من زمان الاستقبال .
واستعير الصمم لعدم الانتفاع بالمسموعات من آيات القرآن ومواعظ النبي صلى الله عليه وسلم كما استعير العمَى هنا لعدم الفهم على طريقة التمثيل لأن حال الأعمى أن يكون مضطرباً فيما يحيط به لا يدري نافعه من ضارّه إلا بمعونة من يرشده ، وكَثر أن يقال : أعمى الله بصره ، مراداً به أنه لم يهده ، وهذه هي النكتة في مجيء تركيب { وأعمى أبصارهم } مخالفاً لتركيب { فأصمهم } إذ لم يقل : وأعماهم .
وفي الآية إشعار بأن الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام من شعار أهل الكفر ، فهما جرمان كبيران يجب على المؤمنين اجتنابهما .