وبعد أن ساق - سبحانه - هذا الدليل العلوى على وحدانيته وقدرته . أتبعه بدليل زمنى يحسه الناس ويشاهدونه فى حياتهم فقال : { يُقَلِّبُ الله الليل والنهار } أى : يعاقب بينهما فيأتى بهذا ، ويذهب بذاك ، وينقص أحدهما ويزيد فى الآخر ، ويجعل أولهما وقتا لحلول نعمه والثانى لنزول نقمه ، أو العكس ، فهو - سبحانه - صاحبهما والمتصرف فيها " إن فى ذلك " التقليب والإزجاء والتأليف ، وغير ذلك من مظاهر قدرته المبثوثة فى الآفاق " لآيات " عظيمة " لأولى الأبصار " التى تبصر قدرة الله - تعالى - وتعتبر بها ، فتخلص له العبادة والطاعة .
ثم مشهد كوني ثالث : مشهد الليل والنهار :
( يقلب الله الليل والنهار . إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) . .
والتأمل في تقلب الليل والنهار بهذا النظام الذي لا يختل ولا يفتر يوقظ في القلب الحساسية وتدبر الناموس الذي يصرف هذا الكون والتأمل في صنع الله . والقرآن يوجه القلب إلى هذه المشاهد التي ذهبت الألفة بوقعها المثير ؛ ليواجه القلب هذا الكون دائما بحس جديد ، وانفعال جديد . فعجيبة الليل والنهار كم شاقت القلب البشري ، وهو يتأملها أول مرة . وهي هي لم تتغير ؛ ولم تفقد جمالها وروعتها . إنما القلب البشري هو الذي صدىء وهمد ، فلم يعد يخفق لها . وكم ذا نفقد من حياتنا ، وكم ذا نخسر من جمال هذا الوجود ، حين نمر غافلين بهذه الظواهر التي شاقت حسنا وهي جديدة . أو وحسنا هو الجديد !
والقرآن يجدد حسنا الخامد ، ويوقظ حواسنا الملول . ويلمس قلبنا البارد . ويثير وجداننا الكليل ؛ لنرتاد هذا الكون دائما كما ارتدناه أول مرة . نقف أمام كل ظاهرة نتأملها ، ونسألها عما وراءها من سر دفين ، ومن سحر مكنون . ونرقب يد الله تفعل فعلها في كل شيء من حولنا ، ونتدبر حكمته في صنعته ، ونعتبر بآياته المبثوثة في تضاعيف الوجود .
إن الله - سبحانه - يريد أن يمن علينا ، بأن يهبنا الوجود مرة كلما نظرنا إلى إحدى ظواهره ؛ فاستعدنا نعمة الإحساس بها كأننا نراها أول مرة . فنظل نجد الكون مرات لا تحصى . وكأننا في كل مرة نوهبه من جديد ؛ ونستمتع به من جديد .
وإن هذا الوجود لجميل وباهر ورائع . وإن فطرتنا لمتوافقة مع فطرته ، مستمدة من النبع الذي يستمد منه ، قائمة على ذات الناموس الذي يقوم عليه . فالاتصال بضمير هذا الوجود يهبنا أنسا وطمأنينة ، وصلة ومعرفة ، وفرحة كفرحة اللقاء بالقريب الغائب أو المحجوب !
وإننا لنجد نور الله هناك . فالله نور السماوات والأرض . . نجده في الآفاق وفي أنفسنا في ذات اللحظة التي نشهد فيها هذا الوجود بالحس البصير ، والقلب المتفتح ، والتأمل الواصل إلى حقيقة التدبير .
لهذا يوقظنا القرآن المرة بعد المرة ، ويوجه حسنا وروحنا إلى شتى مشاهد الوجود الباهرة ، كي لا نمر عليها غافلين مغمضي الأعين ، فنخرج من رحلة الحياة على ظهر هذه الأرض بغير رصيد . أو برصيد قليل هزيل . .
وقوله : يُقَلّبُ اللّهُ اللّيْلَ والنّهارَ يقول : يُعْقِب الله بين الليل والنهار ويصرفهما ، إذا أذهب هذا جاء هذا ، وإذا أَذهب هذا جاء هذا . إنّ فِي ذلكَ لَعِبْرَةً لاِولي الأبْصَارِ يقول : إنّ في إنشاء الله السحاب وإنزاله منه الوَدّقَ ومن السماء البردَ وفي تقليبه الليل والنهار ، لعبرةً لمن اعتبر به وعظةً لمن اتعظ به ممن له فهم وعقل لأن ذلك ينبىء ويدلّ على أنه له مدبّرا ومصرّفا ومقلّبا ، لا يشبهه شيء .
التقليب تغيير هيئة إلى ضدها ومنه { فأصبح يُقلب كفيه على ما أنفق فيها } [ الكهف : 42 ] أي يدير كفيه من ظاهر إلى باطن ، فتقليب الليل والنهار تغيير الأفق من حالة الليل إلى حالة الضياء ومن حالة النهار إلى حالة الظلام ، فالمقلَّب هو الجو بما يختلف عليه من الأعراض ولكن لما كانت حالة ظلمة الجو تُسمى ليلاً وحالة نوره تسمى نهاراً عُبر عن الجو في حالتيه بهما ، وعدي التقليب إليهما بهذا الاعتبار .
ومما يدخل في معنى التقليب تغيير هيئة الليل والنهار بالطول والقصر . ولرعي تكرر التقلب بمعنييه عبر بالمضارع المقتضي للتكرر والتجدد .
والكلام استئناف . وجيء به مستأنفاً غير معطوف على آيات الاعتبار المذكورة قبله لأنه أريد الانتقال من الاستدلال بما قد يخفى على بعض الأبصار إلى الاستدلال بما يشاهده كل ذي بصر كل يوم وكل شهر فهو لا يكاد يخفى على ذي بصر . وهذا تدرج في موقع هذه الجملة عقب جملة { يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } [ النور : 43 ] كما أشرنا إليه آنفاً . ولذلك فالمقصود من الكلام هو جملة { إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار } ، ولكن بني نظم الكلام على تقديم الجملة الفعلية لما تقتضيه من إفادة التجدد بخلاف أن يقال : إن في تقليب الليل والنهار لعبرة .
والإشارة الواقعة في قوله : { إن في ذلك } إلى ما تضمنه فعل { يقلب } من المصدر . أي إن في التقليب . ويرجح هذا القصد ذكر العبرة بلفظ المفرد المنكر .
والتأكيد ب { إن } إما لمجرد الاهتمام بالخبر وإما لتنزيل المشركين في تركهم الاعتبار بذلك منزلة من ينكر أن في ذلك عبرة .
وقيل : الإشارة بقوله : { إن في ذلك } إلى جميع ما ذكر آنفاً ابتداء من قوله : { ألم تر أن الله يزجي سحاباً } [ النور : 43 ] فيكون الإفراد في قوله : { لعبرة } ناظراً إلى أن مجموع ذلك يفيد جنس العبرة الجامعة لليقين بأن الله هو المتصرف في الكون .
ولم تَرد العبرة في القرآن معرّفة بلام الجنس ولا مذكورة بلفظ الجمع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.