ثم انتقلت السورة الكريمة بعد هذا التهديد الشديد للأفاكين . . إلى بيان جانب من النعم التي أنعم بها - سبحانه - على عباده ، ودعت المؤمنين إلى الصبر والصفح ، فقال - تعالى - { الله الذي سَخَّرَ لَكُمُ . . . . ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } .
وقوله - تعالى - { سَخَّرَ } من التسخير بمعنى التذليل والتيسير . يقال : سخر الله - تعالى - الإِبل للإِنسان ، إذا ذللها له ، جعلها منقادة لأمره .
أي : الله - تعالى - وحده ، هو الذي بقدرته ورحمته { سَخَّرَ لَكُمُ البحر } بأن جعلكم متمكنين من الانتفاع بخيراته ، وبأن جعله على هذه الصفة التي تستطيعون منها استخراج ما فيه من خيرات .
وقوله : { لِتَجْرِيَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بيان لبعض الأسباب التي من أجلها سخر الله - تعالى - البحر على هذه الصفة .
أي : جعل لكم البحر على هذه الصفة ، لكي تتمكن السفن من الجري فيه بأمره - تعالى - وقدرته ، ولتطلبوا ما فيه من خيرات ، تارة عن طريق استخراج ما فيه من كنوز ، وتارة عن طريق التجارة فيها . . وكل ذلك بتيسير الله - تعالى - وفضله ورحمته بكم .
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } متعلق بمحذوف . أي : أعطاكم ما أعطاكم من النعم ، وجعل البحر على صفة تتمكنون معها من الجري فيه وأنتم في سفنكم ، ومن استخراج ما فيه من خيرات . . لعلكم بعد ذلك تشكرون الله - تعالى - على هذه النعم ، وتستعملونها فيما خلقت من أجله .
وبعد التهديد المخيف ، والوعيد الرعيب ، يعود فيلمس قلوبهم لمساً رفيقاً ، بالتذكير بأنعم الله التي سخرها لهم في هذا الكون العريض :
( الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون . وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) . .
إن هذا المخلوق الصغير . . الإنسان . . يحظى من رعاية الله - سبحانه - بالقسط الوافر ، الذي يتيح له أن يسخر الخلائق الكونية الهائلة ، وينتفع بها على شتى الوجوه . وذلك بالاهتداء إلى طرف من سر الناموس الإلهي الذي يحكمها ، والذي تسير وفقه ولا تعصاه ! ولولا هذا الاهتداء إلى طرف السر ما استطاع الإنسان بقوته الهزيلة المحدودة أن ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة ؛ بل ما استطاع أن يعيش معها ؛ وهو هذا القزم الصغير ، وهي هذه المردة الجبابرة من القوى والطاقات والأحجام والأجرام .
والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله للإنسان ، فهداه إلى شيء من سر تكوينها وخصائصها ؛ عرف منه هذه الفلك التي تمخر هذا الخلق الهائل ، وهي تطفو على ثبج أمواجه الجبارة ولا تخشاها ! ( لتجري الفلك فيه بأمره ) . . فهو - سبحانه - الذي خلق البحر بهذه الخصائص ، وخلق مادة الفلك بهذه الخصائص ؛ وجعل خصائص الضغط الجوي ، وسرعة الرياح وجاذبية الأرض . . وسائر الخصائص الكونية الأخرى مساعدة على أن تجري الفلك في البحر . وهدى الإنسان إلى هذا كله فأمكنه أن ينتفع به ، وأن ينتفع كذلك بالبحر في نواح أخرى : ( ولتبتغوا من فضله )كالصيد للطعام وللزينة ، وكذلك التجارة والمعرفة والتجربة والرياضة والنزهة ؛ وسائر ما يبتغيه الحي من فضل الله في البحار .
سخر الله للإنسان البحر والفلك ، ليبتغي من فضل الله ؛ وليتجه إليه بالشكر على التفضل والإنعام ، وعلى التسخير والاهتداء : ( ولعلكم تشكرون ) . . وهو يوجه قلبه بهذا القرآن إلى الوفاء بهذا الحق ، وإلى الارتباط بذلك الأفق ، وإلى إدراك ما بينه وبين الكون من وحدة في المصدر ووحدة في الاتجاه . . إلى الله . .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ الّذِي سَخّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : الله أيها القوم ، الذي لا تنبغي الألوهة إلاّ له ، الذي أنعم عليكم هذه النعم ، التي بيّنها لكم في هذه الايات ، وهو أنه سَخّرَ لَكُم الْبَحْر لِتَجْرِيَ السفن فيه بأمره لمعايشكم وتصرّفكم في البلاد لطلب فضله فيها ، ولتشكروا ربكم على تسخيره ذلك لكم فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به ، وينهاكم عنه .
استئناف ابتدائي للانتقال من التذكير بما خلق الله من العوالم وتصاريف أحوَالِها من حيث إنها دلالات على الوحدانية ، إلى التذكير بما سخر الله للناس من المخلوقات وتصاريفها من حيثُ كانت منافع للناس تقتضي أن يشكروا مقدِّرها فجحدوا بها إذ توجهوا بالعبادة إلى غير المنعم عليهم ، ولذلك عُلق بفعليْ { سخر } في الموضعين مجرور بلام العلة بقوله : { لكم } ؛ على أن هذه التصاريف آيات أيضاً مثلُ اختلاف الليل والنهار ، وما أنزل الله من السماء من ماء ، وتصريف الرياح ، ولكن لُوحظ هنا ما فيها من النعم كما لوحظ هنالك ما فيها من الدلالة ، والفَطِنُ يَستخلص من المقامين كلا الأمرين على ما يشبه الاحتباك . ومناسبة هذا الانتقال واضحة .
واسم الجلالة مسند إليه والموصول مسند ، وتعريف الجزأين مفيد الحصر وهو قَصر قلب بتنزيل المشركين منزلة من يحسب أن تسخير البحر وتسخير ما في السماوات والأرض إنعام من شركائهم كقوله تعالى : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } [ الروم : 40 ] ، فكان هذا القصر إبطالا لهذا الزعم الذي اقتضاه هذا التنزيل .
وقوله : { لتجري الفلك فيه } بَدل اشتمال من { لكم } لأن في قوله : { لكم } إجمالاً أريد تفصيله . فتعريف { الفلك } تعريف الجنس ، وليس جري الفلك في البحر بنعمة على الناس إلا باعتبار أنهما يجرونهما للسفر في البحر فلا حاجة إلى جعل الألف واللام عوضاً عن المضاف إليه من باب { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] .
وعطف عليه { ولتبتغوا من فضله } باعتبار ما فيه من عموم الاشتمال ، فحصل من مجموع ذلك أن تسخير البحر لجري الفلك فيه للسفر لقضاء مختلف الحاجات حتى التنزه وزيارة الأهل .
وعطف { ولعلكم تشكرون } على قوله : { لتجري الفلك فيه } لا باعتبار ما اشتمل عليه إجمالاً ، بل باعتبار لفظه في التعليق بفعله . وهذا مناط سَوق هذا الكلام ، أي لعلكم تشكرون فكفرتم ، وتقدم نظير مفردات هذه الآية غير مرة ما أغنى عن إعادته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.