ثم حكى القرآن ما أشار به الملأ من قوم فرعون فقال : { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } .
أرجه : أصله أرجئه - وقد قرىء به - حذفت الهمزة وسكنت الهاء ، تشبيها للضمير المنفصل بالضمير المتصل . والإرجاء التأخير . يقال : ارجيت هذا الأمر وارجأته ، إذا أخرته . ومنه { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } والمدائن : أى : البلاد جمع مدينة ، وهى من مدن بالمكان - كنصر - إذا أقام به ، و { حَاشِرِينَ } أى : جامعين ، يقال : حشر الناس - من باب نصر وضرب - يحشرهم حشرا إذا جمعهم ، ومنه : يوم الحشر والمحشر .
والمعنى : قال الملأ من قوم فرعون حني استشارهم في أمر موسى : أخر أمره وأمر أخيه ولا تتعجل بالقضاء في شأنهما ، وأرسل في مدائن ملكك رجالا أو جماعات من الشرطة يجمعون إليك السحرة المهرة ، لكى يقفوا في وجه هذا الساحر العليم ، ويكشفوا عن سحره ويبطلوه بسحر مثله أو أشد " وكان السحر في عهد فرعون من الأعمال الغالبة التي يحسنها كثير من أهل مملكته .
وقال بعضهم : الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر ، وهو الهم بقتله ، فقالوا له : أخره ليتبين حاله للناس .
وقال القاسمى : تدل الآية على معجزة عظيمة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه ، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه إلا الله وتدل على أن من عادة البشر أن من رأى أمراً عظيما أن يعارضه ، فلذلك دعا فرعون بالسحرة وتدل على أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال ، لذلك قالوا { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } فيدل على أن من أقوى الدواعى إلى ترك الدين ، المحافظة على الرياسة والمال والجاه كما هى عادة الناس في هذا الزمن " .
وقوله { فِي المدآئن } متعلق بأرسل ، و { حَاشِرِينَ } نعت لمحذوف أى : رجالا حاشرين . ومفعوله محذوف . أى : حاشرين السحرة ، بدليل ما بعده .
ولا يذكر السياق القرآنى بعد ذلك أنهم أرسلوا إلى السحرة ، ولا أنهم جمعوهم ، وإنما يترك ذلك للعقل يفهمه حيث لا داعى لذكر هذه التفاصيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوَاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : قال الملأ من قوم فرعون لفرعون : أرجئه : أي أخره . وقال بعضهم : معناه : احبس . والإرجاء في كلام العرب : التأخير ، يقال منه : أرجيت هذا الأمر وأرجأته إذا أخرته ، ومنه قول الله تعالى : تُرْجي مَنْ تَشاءُ مِنهُنّ : تؤخر ، فالهمز من كلام بعض قبائل قيس يقولون : أرجأت هذا الأمر ، وترك الهمز من لغة تميم وأسد يقولون : أرجيته .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض العراقيين : «أرْجِهِ » بغير الهمز وبجرّ الهاء . وقرأه بعض قرّاء الكوفيين : أرْجِهْ بترك الهمز وتسكين الهاء على لغة من يقف على الهاء في المكنّي في الوصل إذا تحرّك ما قبلها ، كما قال الراجز :
أنْحَى عليّ الدّهْرُ رِجْلا وَيَدَا ***يُقْسِمُ لا يُصْلِحُ إلاّ أفْسَدَا
***فَيُصْلِحُ الَيْومَ ويُفْسِدُهُ غَدَا ***
وقد يفعلون مثل هذا بهاء التأنيث فيقولون : هذه طلحه قد أقبلت ، كما قال الراجز :
لَمّا رأى أنْ لا دَعَهْ وَلا شِبَعْ ***مالَ إلى أرْطاةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ
وقرأه بعض البصريين : «أرْجِئْهُ » بالهمز وضمّ الهاء ، على لغة من ذكرت من قيس .
وأولى القراءات في ذلك بالصواب أشهرها وأفصحها في كلام العرب ، وذلك ترك الهمز وجرّ الهاء ، وإن كانت الأخرى جائزة ، غير أن الذي اخترنا أفصح اللغات وأكثرها على ألسن فصحاء العرب .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : أرْجِهْ فقال بعضهم : معناه : أخره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : أرْجِهْ وأخاهُ قال : أخره .
وقال آخرون : معناه احبسه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أرْجِهْ وأخاهُ : أي احبسه وأخاه .
وأما قوله : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ يقول : من يحشر السحرة فيجمعهم إليك ، وقيل : هم الشّرَط . ذكر من قال ذلك :
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السديّ ، عن ابن عباس : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشّرط .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن أبيه ، عن مجاهد : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشرط .
قال ثنا حميد ، عن قيس ، عن السديّ : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشرط .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن أبيه ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في قوله : فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشرط .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبو سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : وأرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حاشِرِينَ قال : الشرط .
ثم أشار الملأ على فرعون بأن يؤخر موسى وهارون ويدع النظر في أمرهما ويجمع السحرة من كل مكان حتى تكون غلبة موسى بحجة واضحة معلومة بينة ، وقرأ ابن كثير «أرجئهو » بواو بعد الهاء المضمومة وبالهمز قبل الهاء ، وقرأ أبو عمرو «أرجئه » بالهمز ، دون واو بعدها وقرأ نافع وحده في رواية قالون : «أرجهِ » بكسر الهاء ، ويحتمل أن يكون المعنى : أخره فسهل الهمزة ، ويحتمل من الرجا بمعنى أطعمه ورجه قاله المبرد ، وقرأ ورش عن نافع : «أرجهِي » بياء بعد كسرة الهاء ، وقرأ ابن عامر : «أرجئهِ » بكسر الهاء وبهمزة قبلها ، قال الفارسي وهذا غلط وقرأ عاصم والكسائي «أرجهُ » بضم الهاء دون همز ، وروى أبان عن عاصم : «أرجهْ » بسكون الهاء وهي لغة تقف على هاء الكناية إذا تحرك ما قبلها ، ومنه قول الشاعر : [ منظور بن حبة الأسدي ]
أنحى عليًّ الدهرُ رجلاً ويدا*** يقسم لا أصلَحَ إلا أفسدا
لما رأى أن لا دعة ولا شبع*** مال إلى أرطاة حقف فاضطجع
وحكى النقاش أنه لم يكن يجالس فرعون ولد ِغَّية وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا بالإرجاء ولم يشيروا بالقتل وقالوا : إن قتلته دخلت على الناس شبهة ولكن اغلبه بالحجة ، و { المدائن } جمع مدينة وزنها فعيلة من مدن أو مفعلة من دان يدين وعلى هذا يهمز مدائن أو لا يهمز ، و { حاشرين } معناه جامعين ، قال المفسرون : وهم الشرط .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.