ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على فضله ورحمته بعباده ، وعلى وحدانيته وكمال قدرته ، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، وعلى أن كل نفس ستجازى فى هذا اليوم بما كسبت بدون ظلم أو محاباة ، لأن القضاء فيه لله الواحد القهار . فقال - تعالى - :
{ هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ . . . }
المقصود بآياته - عز وجل - فى قوله : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ . . . } الدلائل الدالة على وحدانيته وقدرته ، كخلقه للشمس والقمر والليل والنهار ، والبحار والأنهار ، والسماء والأرض ، والمطر والرعد ، والنجوم والرياح ، والأشجار الكبيرة والصغيرة . . إلى غير ذلك من آياته التى لا تحصى فى هذا الوجود . .
أى : هو - سبحانه - الذى يريكم آياته الدالة على وحدانيته وقدرته ، لتزدادوا - أيها المؤمنون - إيمانا على إيمانكم ، وثباتا على ثباتكم ، ويقينا على يقينكم ، بأن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد القهار .
وقد ساق - سبحانه - فى كتابه عشرات الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } وقوله عز وجل : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بالليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ . . } وقوله - تعالى - : { إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } والمراد بالرزق فى قوله : { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً } . . الأمطار التى تنزل من السماء على الأرض ، فتحييها بعد موتها ، بأن تحولها من أرض جدباء يابسة ، إلى أرض خضراء بشتى الزروع والثمار .
وأطلق - سبحانه - على المطر رزقا . لأنه سبب فيه ، وأفرده بالذكر مع كونه من جملة الآيات التى يريها - تعالى - لعباده لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته ، وجلائل نعمه ، الموجبة لشكره - عز وجل - ، ولوجوب إخلاص العبادة له .
وقوله - تعالى - : { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } بيان لمن هو أهل للانتفاع بهذه الآيات .
أى : وما يتذكر وينتفع بهذه الآيات إلا من يرجع عن المعصية إلى الطاعة وعن الكفر إلى الإِيمان ، وعن العناد والجحود ، إلى التفكر والتدبر بقلب سليم .
فقوله { يُنِيبُ } من الإِنابة ، ومعناها الرجوع عن الكفر والمعاصى : إلى الإِيمان والطاعة .
وفي ظل هذا المشهد يستطرد إلى شيء من صفة الله تناسب موقف الاستعلاء ويوجه المؤمنين في هذا المقام إلى التوجه إليه بالدعاء ، موحدين ، مخلصين له الدين كما يشير إلى الوحي للإنذار بيوم التلاقي والفصل والجزاء ، يوم يتفرد الله بالملك والقهر والاستعلاء :
( هو الذي يريكم آياته ، وينزل لكم من السماء رزقاً ، وما يتذكر إلا من ينيب . فادعوا الله مخلصين له الدين ، ولو كره الكافرون . رفيع الدرجات ، ذو العرش ، يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق . يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء . لمن الملك اليوم ? لله الواحد القهار . اليوم تجزى كل نفس بما كسبت . لا ظلم اليوم . إن الله سريع الحساب ) . .
وهو الذي يريكم آياته . . وآيات الله ترى في كل شيء في هذا الوجود . في المجالي الكبيرة من شمس وكواكب ، وليل ونهار ، ومطر وبرق ورعد . . وفي الدقائق الصغيرة من الذرة والخلية والورقة والزهرة . . وفي كل منها آية خارقة ، تتبدى عظمتها حين يحاول الإنسان أن يقلدها - بله أن ينشئها - وهيهات هيهات التقليد الكامل الدقيق ، لأصغر وأبسط ما أبدعته يد الله في هذا الوجود .
وينزل عليكم من السماء رزقاً . . عرف الناس منه المطر ، أصل الحياة في هذه الأرض ، وسبب الطعام والشراب . وغير المطر كثير يكشفه الناس يوماً بعد يوم . ومنه هذه الأشعة المحيية التي لولاها ما كانت حياة على هذا الكوكب الأرضي . ولعل من هذا الرزق تلك الرسالات المنزلة ، التي قادت خطى البشرية منذ طفولتها ونقلت أقدامها في الطريق المستقيم ، وهدتها إلى مناهج الحياة الموصولة بالله ، وناموسه القويم .
( وما يتذكر إلا من ينيب ) . . فالذي ينيب إلى ربه يتذكر نعمه ويتذكر فضله ويتذكر آياته التي ينساها غلاظ القلوب .
وعلى ذكر الإنابة وما تثيره في القلب من تذكر وتدبر يوجه الله المؤمنين ليدعوا الله وحده ويخلصوا له الدين ، غير عابئين بكره الكافرين :
القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكّرُ إِلاّ مَن يُنِيبُ * فَادْعُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : الذي يريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته وربوبيته وَيُنَزّلُ لَكُمْ مِنَ السّمَاءِ رِزْقا يقول ينزّل لكم من أرزاقكم من السماء بإدرار الغيث الذي يخرج به أقواتكم من الأرض ، وغذاء أنعامكم عليكم وَما يَتَذَكّرُ إلاّ مَنْ يُنِيبُ يقول : وما يتذكر حجج الله التي جعلها أدلة على وحدانيته ، فيعتبر بها ويتعظ ، ويعلم حقيقة ما تدلّ عليه ، إلا من ينيب ، يقول : إلا من يرجع إلى توحيده ، ويقبل على طاعته ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إلاّ مَنْ يُنِيبُ قال : من يقبل إلى طاعة الله .
{ وهو الذي يريكم آياته } الدالة على التوحيد وسائر ما يجب أن يعلم تكميلا لنفوسكم . { وينزل لكم من السماء رزقا } أسباب رزق كالمطر مراعاة لمعاشكم . { وما يتذكر } بالآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى . { إلا من ينيب } يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكير فيها ، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه .
هذه ابتداء مخاطبة في معنى توحيد الله تعالى وتبيين علامات ذلك ، وآيات الله : تعم آيات قدرته وآيات قرآنه والمعجزات الظاهرة على أيدي رسله . وتنزيل الرزق : هو في تنزيل المطر وفي تنزيل القضاء والحكم ، قيل ما يناله المرء في تجارة وغير ذلك وقرأ جمهور الناس : «ويُنْزِل » بالتخفيف . وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وجماعة : «وينَزِّل » بفتح النون وشد الزاي .
وقوله تعالى : { وما يتذكر إلا من ينيب } معناه : وما يتذكر تذكراً يعتد به وينفع صاحبه ، لأنا نجد من لا ينيب يتذكر ، لكن لما كان ذلك غير نافع عد كأنه لم يكن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.