ثم ساق - سبحانه - مثالاً آخر للدلالة على شمول قدرته ، فقال - تعالى - : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } .
و { أم } هنا يجوز أن تكون متصلة ؛ بمعنى : أى الأمرين حاصل . ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى : بل .
والقاصف من الريح : هو الريح العاتية الشديدة التى تقصف وتحطم كل ما مرت به من أشجار وغيرها . يقال : فصف فلان الشئ ، إذا كسره .
والتبيع : فعيل بمعنى فاعل ، وهو المطالب غيره بحق سواء أكان هذا الحق دينا أم ثأرًا أم غيرهما ، مع مداومته على هذا الطلب .
والمعنى : بل أأمنتم - أيها الناس - { أن يعيدكم } الله - تعالى - { فيه } أى : فى البحر ، لسبب من الأسباب التى تحملكم على العودة إليه مرة أخرى { فيرسل عليكم } - سبحانه - وأنتم فى البحر { قَاصِفاً مِّنَ الريح } العاتية الشديدة التى تحطم سفنكم { فيغركم } بسبب كفركم وجحودكم لنعمه ، { أَمْثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } أى : إننا من السهل علينا أن نفعل معكم ذلك وأكثر منه ، ثم لا تجدوا لكم أحدًا ينصركم علينا ، أو يطالبنا بحق لكم علينا ، فنحن لا نسأل عما نفعل ، وأنتم المسئولون
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىَ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مّنَ الرّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } .
يقول تعالى ذكره : أم أمنتم أيها القوم من ربكم ، وقد كفرتم به بعد إنعامه عليكم ، النعمة التي قد علمتم أن يعيدكم في البحر تارة أخرى : يقول : مرّة أخرى ، والهاء التي في قوله «فيه » من ذكر البحر . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أنْ يُعيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرَى : أي في البحر مرّة أخرى فَيُرْسلَ عَلَيْكُمْ قاصِفا مِنَ الرّيحِ وهي التي تقصف ما مرّت به فتحطمه وتدقه ، من قولهم : قصف فلان ظهر فلان : إذا كسره فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرتُمْ يقول : فيغرقكم الله بهذه الريح القاصف بما كفرتم ، يقول : بكفركم به ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا يقول : ثم لا تجدوا لكم علينا تابعا يتبعنا بما فعلنا بكم ، ولا ثائرا يثأرنا بإهلاكنا إياكم . وقيل : تبيعا في موضع التابع ، كما قيل : عليم فيموضع عالم . والعرب تقول لكل طالب بدم أو دين أو غيره : تبيع . ومنه قول الشاعر :
عَدَوْا وَعَدَتْ غِزْلانُهُمْ فَكأنّهَا *** ضَوَامنُ غُرْمٍ لَزّهُنّ تَبِيعُ
وبنحو الذي قلنا في القاصف والتبيع ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِنَ الرّيحِ يقول : عاصفا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قاصفا التي تُغْرق .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا يقول نصيرا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال محمد : ثائرا ، وقال الحرث : نصيرا ثائرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا قال : ثائرا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا أي لا نخاف أن نتبع بشيء من ذلك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ثُمّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعا يقول : لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك . والتارة : جمعه تارات وتير ، وأفعلت منه : أترت .
( أم ) عاطفة الاستفهام ، وهي للإضراب الانتقالي ، أي بل أأمنتم ، فالاستفهام مقدر مع ( أم ) لأنها خاصة به ، أي أو هل كنتم آمنين من العود إلى ركوب البحر مرة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح .
والتارة : المرة المتكررة ، قيل عينه همزة ثم خففت لكثرة الاستعمال . وقيل : هي واو . والأول أظهر لوجوده مهموزاً وهم لا يهمزون حرف العلة في اللغة الفصحى ، وأما تخفيف المهموز فكثير مثل : فأس وفاس ، وكأس وكاس .
ومعنى { أن يعيدكم } أن يُوجد فيكم الدواعي إلى العود تهيئة لإغراقكم وإرادة للانتقام منكم ، كما يدل عليه السياق وتفريعُ { فيرسل } عليه .
والقاصف : التي تقصف ، أي تكسر . وأصل القصف : الكسر . وغلب وصف الريح به . فعومل معاملة الصفات المختصة بالمؤنث فلم يلحقوه علامة التأنيث ، مثل { عاصف } في قوله : { جاءتها ريح عاصف } في سورة [ يونس : 22 ] . والمعنى : فيرسل عليكم ريحاً قاصفاً ، أي تقصف الفلك ، أي تعطبه بحيث يغرق ، ولذلك قال : { فيغرقكم } .
قرأ الجمهور { من الريح } بالإفراد . وقرأ أبو جعفر { من الرياح } بصيغة الجمع .
والباء في { بما كفرتم } للسببية . و ( ما ) مصدرية ، أي بكفركم ، أي شرككم .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي كشأنها في عطفها الجمل . وهو ارتقاء في التهديد بعدم وجود مُنقذ لهم ، بعد تهديدهم بالغرق لأن الغريق قد يجدُ منقذاً .
والتبيع : مبالغة في التابع ، أي المتتبع غيره المطالب لاقتضاء شيء منه . أي لا تجدوا من يسعى إليه ولا من يطالب لكم بثأر .
ووصف ( تبيع ) يناسب حال الضر الذي يلحقهم في البحر ، لأن البحر لا يصل إليه رجال قبيلة القوم وأولياؤهم ، فلو راموا الثأر لهم لركبوا البحر ليتابعوا آثار من ألحق بهم ضراً . فلذلك قيل هنا { تبيعا } وقيل في التي قبلها { وكيلاً } كما تقدم .
وضمير { به } عائد إما إلى الإغراق المفهوم من { يغرقكم } ، وإما إلى المذكور من إرسال القاصف وغيره .
وقرأ الجمهور ألفاظ { يخسف } و { يرسل } و { يعيدكم } و { فيرسل } و { فيغرقكم } خمسُتها بالياء التحتية . وقرأها ابن كثير وأبو عمرو بنون العظمة على الالتفات من ضمير الغيبة الذي في قوله : { فلما نجاكم إلى البر } إلى ضمير التكلم . وقرأ أبو جعفر ورويس عن يعقوب { فتغرقكم } بمثناة فوقية . والضمير عائد إلى { الريح } على اعتبار التأنيث ، أو { على الرياح } على قراءة أبي جعفر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم أمنتم أن يعيدكم فيه}: في البحر،
{تارة أخرى}، يعني: مرة أخرى...
{فيرسل عليكم قاصفا}، يعني: عاصفا، {من الريح}، وهي الشدة،
{فيغرقكم بما كفرتم} النعم حين أنجاكم من الغرق، ونقضتم العهد وأنتم في البر،
{ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا}، يقول: لا تجدوا علينا به تبعة مما أصبناكم به من العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أم أمنتم أيها القوم من ربكم، وقد كفرتم به بعد إنعامه عليكم، النعمة التي قد علمتم، أن يعيدكم في البحر "تارة أخرى": يقول: مرّة أخرى، والهاء التي في قوله "فيه "من ذكر البحر...
"فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ" وهي التي تقصف ما مرّت به فتحطمه وتدقه، من قولهم: قصف فلان ظهر فلان: إذا كسره "فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ" يقول: فيغرقكم الله بهذه الريح القاصف بما كفرتم، يقول: بكفركم به.
"ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا" يقول: ثم لا تجدوا لكم علينا تابعا يتبعنا بما فعلنا بكم، ولا ثائرا يثأرنا بإهلاكنا إياكم، وقيل: تبيعا في موضع التابع، كما قيل: عليم في موضع عالم. والعرب تقول لكل طالب بدم أو دين أو غيره: تبيع...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى} أي يحوجكم إلى ركوب البحر مرة أخرى {فيغرقكم بما كفرتم} أو يذكر هذا: أن من قدر على إنشاء ما ذكر من الفلك وإجرائها في البحر وتسكين أمواجه ودفع أهواله قادر على إهلاكهم في البر وإعادتكم في البحر ثانيا وإغراقكم فيه...
{تبيعا} أي من يتبعنا بدمائكم ويطالبنا بها... وقال أبو عوسجة: التبيع الكفيل، ويقال: المتقاضي في موضع آخر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَمْ أَمِنتُمْ} أن يقوّي دواعيكم ويوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم، فينتقم منكم بأن يرسل {عَلَيْكُمْ قَاصِفًا} وهي الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد، كأنها تتقصف أي تتكسر. وقيل: التي لا تمرّ بشيء إلا قصفته {فَيُغْرِقَكُم}... التبيع: المطالب، من قوله {فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178] أي مطالبة...
يقال: فلان على فلان تبيع بحقه، أي مصيطر عليه مطالب له بحقه. والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بهم، ثم لا تجد أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودركاً للثأر من جهتنا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أم أمنتم} إن جاوزت بكم الغباوة حدها فلم تجوزوا ذلك {أن يعيدكم فيه} أي البحر بما لنا من العظمة التي تضطركم إلى ذلك فتقركم عليه وإن كرهتم {تارة أخرى} بأسباب تضطركم إلى ذلك {فنرسل عليكم} أي بما لنا من صفة الجلال {قاصفاً} وهو الكاسر بشدة {من الريح} كما عهدتم أمثاله يا من وقفت أفكارهم مع المحسوسات فرضوا بذلك أن يكونوا كالبهائم لا يفهمون إلا الجزئيات المشاهدات {فيغرقكم} أي في البحر الذي أعدناكم فيه، لعظمتنا {بما كفرتم} كما يفعل أحدكم إذا ظفر بمن كفر إحسانه {ثم لا تجدوا لكم} وإن أمعنتم في الطلب، وطالت أزمانكم في إتقان السبب. ولما كان إطلاق النفي في ختام الآية الماضية -وإن كان لإرادة التعميم- يحتمل أن يدعي تقييده بما يخالف المراد، وكان المقصود هنا التخويف بسطوته سبحانه تارة بالخسف وتارة بغيره، قيد بما عين المراد، وقدم قوله تعالى: {علينا} دلالة على باهر العظمة {به} أي بما فعلنا بكم {تبيعاً} أي مطالباً يطالبنا به.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} أي: تبعة ومطالبة، فإن الله لم يظلمكم مثقال ذرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ألا إنها الغفلة أن يعرض الناس عن ربهم ويكفروا. ثم يأمنوا أخذه وكيده. وهم يتوجهون إليه وحده في الشدة ثم ينسونه بعد النجاة كأنها آخر شدة يمكن أن يأخذهم بها الله!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... أي: بل أأمنتم... أو هل كنتم آمنين من العود إلى ركوب البحر مرة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح... والتارة: المرة المتكررة... والمعنى: فيرسل عليكم ريحاً قاصفاً، أي تقصف الفلك، أي تعطبه بحيث يغرق، ولذلك قال: {فيغرقكم}... و (ثم) للترتيب الرتبي كشأنها في عطفها الجمل. وهو ارتقاء في التهديد بعدم وجود مُنقذ لهم، بعد تهديدهم بالغرق لأن الغريق قد يجدُ منقذاً...
والتبيع: مبالغة في التابع، أي المتتبع غيره المطالب لاقتضاء شيء منه. أي لا تجدوا من يسعى إليه ولا من يطالب لكم بثأر...