وكأنهم قد خيل إليهم - بعد هذا السؤال التوبيخى ، أنهم قد أذن لهم فى الكلام ، وأن اعترافهم بذنوبهم قد ينفعهم فيقولون - كما حكى القرآن عنهم - : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا . . } أى : يا ربنا تغلبت علينا أنفسنا الأمارة بالسوء ، فصرفتنا عن الحق ، وتغلبت علينا ملذاتنا وشهواتنا وسيئاتنا التى أفضت بنا إلى هذا المصير المؤلم { وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } عن الهدى والرشاد ، بسبب شقائنا وتعاستنا .
قالُوا رَبّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة : غَلَبَت عَلَيْنا شِقْوَتُنا بكسر الشين ، وبغير ألف . وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة : «شَقاوَتُنا » بفتح الشين والألف .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ، وقرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء بمعنى واحد ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب . وتأويل الكلام : قالوا : ربنا غلبت علينا ما سبق لنا في سابق علمك وخطّ لنا في أمّ الكتاب .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد ، قوله : غَلَبْتَ عَلَيْنا شِقْوَتُنا قال : التي كتبت علينا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا التي كتبت علينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال : قال ابن جريج : «بلغنا أن أهل النار نادوا خَزَنة جهنم : أنُ ادْعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فلم يجيبوهم ما شاء الله فلما أجابوهم بعد حين قالوا : ادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال . قال : ثم نادوا مالكا : يا مالك ليقضِ علينا ربك فسكت عنهم مالك خازن جهنم أربعين سنة ، ثم أجابهم فقال : إنّكُمْ ماكِثُونَ . ثم نادى الأشقياء ربهم ، فقالوا : رَبّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وكُنّا قَوْما ضَالّينَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها فإنْ عُدْنا فإنّا ظالِمُونَ فسكت عنهم مثل مقدار الدنيا ، ثم أجابهم بعد ذلك تبارك وتعالى : اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُونِ .
قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : «ينادِي أهل النار أهل الجنة فلا يجيبونهم ما شاء الله ، ثم يقول : أجيبوهم وقد قطع الرّحِمَ والرحمة . فيقول أهل الجنة : يا أهل النار عليكم غضب الله يا أهل النار عليكم لعنة الله يا أهل النار ، لا لَبّيْكم ولا سَعْدَيْكم ماذا تقولون ؟ فيقولون : ألم نك في الدنيا آباءكم وأبناءكم وإخوانكم وعشيرتكم ؟ فيقولون : بلى . فيقولون : أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِما رَزَقَكُمُ اللّهُ قالُوا إنّ اللّهَ حَرّمَهُما عَلى الكافِرِينَ » .
قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ قال : وثني عَبْدة المُرُوزِيّ ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عمرو بن أبي ليلى ، قال : سمعت محمد بن كعب ، زاد أحدهما على صاحبه ، قال محمد بن كعب : بلغني ، أو ذُكر لي ، أن أهل النار استغاثوا بالخَزَنة ، ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فردّوا عليهم ما قال الله فلما أيسوا نادَوا : يا مالك وهو عليهم ، وله مجلس في وسطها ، وجسور تمرّ عليها ملائكة العذاب ، فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها فقالوا : يا مالك ، ليقض علينا ربك سألوا الموت . فمكث لا يجيبهم ثمانين ألفَ سنة من سني الاَخرة ، أو كما قال . ثم انحطّ إليهم ، فقال : إنّكُمْ ماكثونَ فلما سمعوا ذلك قالوا : فاصبروا ، فلعلّ الصبر ينفعنا كما صبر أهل الدنيا على طاعة الله قال : فصَبَروا ، فطال صبرهم ، فنادَوا : سَوَاءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ : أي مَنْجًى ، فقام إبليس عند ذلك فخطبهم ، فقال : إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقّ ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، فلما سمعوا مقالتهم ، مَقَتُوا أنفسهم ، قال : فُنودوا : لَمَقْتُ اللّهِ أكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعُوْنَ إلى الاْيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قالُوا رَبّنا أمَتّنَا . . . الاَية ، قال : فيجيبهم الله فيها : ذَلَكُمْ بأنّهُ إذَا دُعِيَ اللّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإنْ يُشْرَكْ بِهه تُؤْمِنُوا فالحُكْمُ لِلّهِ العَليّ الكَبِيرِ . قال : فيقولون : ما أيسنا بعدُ قال : ثم دَعَوا مرّة أخرى ، فيقولون : رَبّنا أبْصَرْنا وَسمِعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صَالِحا إنّا مُوقِنُونَ قال : فيقول الربّ تبارك وتعالى : وَلَوْ شِئْنا لاَتَيْنا كُلّ نَفْسٍ هُدَاها يقول الربّ : لو شئت لهديت الناس جميعا فلم يختلف منهم أحد ولكنْ حَقّ القَوْلُ مِنّي لاَءَمْلأَنّ جَهَنّمَ مِنَ الجِنّةِ والنّاسِ أجَمعِينَ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يقول : بما تركتم أن تعملوا ليومكم هذا ، إنّا نَسِيناكُمْ : أي تركناكم ، وَذُوقُوا عَذَابَ الخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . قال : فيقولون : ما أيسنا بعد قال : فيدعون مرّة أخرى : رَبّنا أخّرْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتّبِعِ الرّسُلَ قال : فيقال لهم : أوَ لَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ . . . الاَية ، قال : فيقولون : ما أيسنا بعد ثم قالوا مرّة أخرى : رَبّنا أخْرِجْنا نَعْمَلْ صَالِحا غيرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ ، قال : فيقول : أوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ ما يَتَذَكّرُ فِيهِ مِنْ تَذَكّرَ وَجاءَكُمُ النّذِيرُ . . . إلى : نَصِيرٍ . ثم مكث عنهم ما شاء الله ، ثم ناداهم : أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذّبُونَ فلما سمعوا ذلك قالوا : الاَن يرحمنا فقالوا عند ذلك : رَبّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا : أي الكتاب الذي كتب علينا وكُنّا قَوْما ضَالّينَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنْها . . . الاَية ، فقال عند ذلك : اخْسَئُوا فِيها وَلا تُكَلّمُونِ قال : فلا يتكلمون فيها أبدا . فانقطع عند ذلك الدعاء والرجاء منهم ، وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض ، فأَطْبَقت عليهم . قال عبد الله بن المبارك في حديثه : فحدثني الأزهر بن أبي الأزهر أنه قال : فذلك قوله : هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، أنه قال : فوالذي أنزل القرآن على محمد والتوراة على موسى والإنجيل على عيسى ، ما تكلم أهل النار كلمة بعدها إلا الشهيق والزّعيق في الخلد أبدا ليس له نفاد .
قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، قال : كنا في جنازة ومعنا أبو جعفر القارىء ، فجلسنا ، فتنحى أبو جعفر ، فبكى ، فقيل له : ما يبكيك يا أبا جعفر ؟ قال : أخبرني زيد بن أسلم أن أهل النار لا يتنفسون .
وقوله : وكُنّا قَوْما ضَالّينَ يقول : كنا قوما ضَلَلْنا عن سبيل الرشاد وقصد الحقّ .
الغلب حقيقته : الاستيلاء والقهر . وأطلق هنا على التلبس بالشقوة دون التلبس بالسعادة . ومفعول { غلبت } محذوف يدل عليه { شقوتنا } لأن الشقوة تقابلها السعادة ، أي غلبت شقوتنا السعادة . والمجرور ب ( على ) بعد مادة الغلب هو الشيء المتغالب عليه كما في الحديث « قال النساء : غلبنا عليك الرجال » . مُثِّلَت حالة اختيارهم لأسباب الشقوة بدل أسباب السعادة بحالة غائرة بين السعادة والشقاوة على نفوسهم . وإضافة الشقوة إلى ضميرهم لاختصاصها بهم حين صارت غالبة عليهم .
والشِّقوة بكسر الشين وسكون القاف في قراءة الجمهور . وهي زنة الهيئة من الشقاء . وقرأ حمزة والكسائي وخلف { شقاوتنا } بفتح الشين وبألف بعد القاف وهو مصدر على صيغة الفعالة مثل الجزالة والسذاجة . وزيادة قوله { قوماً } على أن الضلالة من شيمتهم وبها قوام قوميتهم كما تقدم عند قوله { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) وعند قوله { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } في آخر سورة يونس ( 101 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.