قوله تعالى : { قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت أرحم الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون } .
اعلم أنه سبحانه لما قال : { ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين :
الأول : قولهم : { ربنا غلبت علينا شقوتنا } وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف : غلبت علينا ملكتنا من قولك غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك ، والشقاوة سوء العاقبة ، قرئ : ( شقوتنا ) و ( شقاوتنا ) بفتح الشين وكسرها فيهما ، قال أبو مسلم : الشقوة من الشقاء كجرية الماء ، والمصدر الجري ، وقد يجيء لفظ فعله ، والمراد به الهيئة والحال ، فيقول جلسة حسنة وركبة وقعدة وذلك من الهيئة ، وتقول عاش فلان عيشة طيبة ومات ميتة كريمة ، وهذا هو الحال والهيئة ، فعلى هذا المراد من الشقوة حال الشقاء .
المسألة الثانية : قال الجبائي : المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المسبب على السبب . وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه ، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم ، قلنا إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة ، وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث ، فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك ، وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع ، وإن افتقر إلى محدث فمحدثه إما العبد أو الله تعالى ؟ فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه . أحدها : أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك ، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر ، عاد الكلام فيه ولزم التسلسل ، وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وذلك يسد باب إثبات الصانع . وثانيها : أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها ، والجاهل بالشيء لا يكون محدثا له ، وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم . والثاني : أن أحدا في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل ، بل لا يقصد إلا تحصيل العلم ، فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم ، فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه ، لكنه لم يقصد إلا العلم فكيف حصل الجهل ؟ فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى ، ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة ، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة . الوجه الثاني : لهم في الجواب قولهم : { وكنا قوما ضالين } وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ، ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم وما ذاك إلا خلق الداعي إلى الضلال . ثم إن القوم لما أوردوا هذين العذرين ، قال لهم سبحانه : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة ، بل لا يسأل عما يفعل . قال القاضي في قوله : { ربنا غلبت علينا شقوتنا } دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف ، فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب ، فنقول قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم ، قال لهم : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.