قوله تعالى{[33435]} : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } الآية . لمّا قال سبحانه { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ المؤمنون : 105 ] ذكر ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين الأول قولهم{[33436]} : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } قرأ الأخوان{[33437]} : «شقاوتنا » بفتح الشين وألف بعد القاف . والباقون بكسر الشين وسكون القاف{[33438]} . وهما مصدران بمعنى واحد{[33439]} فالشقاوة كالقساوة ، وهي لغة فاشية ، والشقوة كالفطنة والنعمة ، وأنشد الفراء {[33440]} :
كُلِّفَ مِنْ عَنَائِهِ وشِقْوَتِهْ *** بِنْتَ ثَمَانِي عَشْرَةٍ مِنْ حِجَّتِهْ{[33441]}
قال أبو مسلم : «الشقْوَة من الشقَاء كجِرْيَة الماء ، والمصدر الجَرْي ، وقد يجيء لفظ فِعْلَة ، والمراد به الهيئة والحال فيقول : جِلْسَة حَسنة ورِكْبَة وقِعْدَة ، وذلك من الهيئة ، وتقول : عاش فلان عِيشَةً طيبة ، ومات مِيتَةً كريمة ، وهذا هو الحال والهيئة ، فَعَلَى هذا المراد من الشقْوَة حال الشقاء{[33442]} . وقرأ قتادة والحسن في رواية كالأخوين إلاّ أنهما كسرا الشين{[33443]} ، وشبل{[33444]} في اختياره كالباقين إلاّ أنّه فتح الشين{[33445]} .
قال الزمخشري : «غَلَبَتْ عَلَيْنَا » ملكتنا من قولك غَلَبَنِي فلان على كذا إذا أخذه منك ( وامتلكه ){[33446]} والشَّقاوة سوء العاقبة{[33447]} .
قال الجبائي{[33448]} : المراد أن{[33449]} طلبنا اللذّات المحرّمة ، وخروجنا عن العمل الحسن ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المُسبب على السبب ، وليس هذا باعتذار فيه ، لأن علمهم بأن لا عُذر لهم فيه ثابت عندهم ، ولكنه اعتراف بقيام الحجة عليهم في سوء صنيعهم .
وأجيب : بأنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذّات المحرّمة ، وطلب تلك اللذّات حاصل باختيارهم أو لا باختيارهم ، فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث فإن استغنى عن المؤثر ، فَلِم لا يجوز في كل الحوادث ذلك ؟ وحينئذ يَنْسد عليك باب إثبات الصانع ، وإن افتقر إلى مُحدث فمحدثه إمَّا العبد أو الله ، فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه :
أحدها : أنَّ قدرة العبد صالحة للفعل والترك ، فإن توقَّف صدور تلك الإرادة عنه إلى مرجح آخر ، عاد الكلام فيه ، ولزم التسلسل ، وإن لم يتوقف على المرجّح ، فقد جوزتَ رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجّح ، وذلك يسد باب إثبات الصانع .
وثانيها : أنَّ العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ، ولا كيفيّتها ، والجاهل بالشيء لا يكون محدثاً له ، وإلاّ لبطلت دلالة الأحكام ، ولا يقال علم العلم .
وثالثها : أَنَّ أحداً في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل ، بل لا يقصد إلا ( ما قصد إيقاعه لكنه لم يقصد إلاّ ) {[33450]} تحصيل العلم فكيف حصل الجهل فثبت أن الموجد للداعي والبواعث هو الله ، ثم إنَّ الداعية إِذا كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة ، وإن كانت سائقة إلى الشرّ كانت شقاوة .
وقال القاضي ، قولهم { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } دليل على أنه لا عذر لهم لاعترافهم ، فلو كان كفرهم من خلقه وإرادته ، وعَلِمُوا ذلك ، لكان ذكرهم ذلك أولى وأقرب إلى العذر .
والجواب : قد بيّنا أنّ الذي ذكروه ليس إلاّ ذلك ، ولكنهم مُقرّون أن لا عذر لهم فلا جرم قيل : «اخْسَئُوا فِيهَا »{[33451]} .
والوجه{[33452]} الثاني لهم{[33453]} في الجواب : قولهم : { وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ } أي : عن الهدى ، وهذا الضلال الذي جعلوه كالعِلّة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه ، وهو باطل ، فلم يبق إلاّ أن يكون ذلك الضلال ( عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم ، وما ذلك إلاّ خلق الداعي إلى الضلال ){[33454]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.