ثم اختتم الله - تعالى - قصة نوح - عليه السلام - مع قومه فى هذه السورة ، بقوله : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ }
واسم الإِشارة { تلك } يعود إلى ما قصه الله - تعالى - من قصة نوح مع قومه فى هذه السورة .
والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر الهام . والغيب : مصدر غاب ، وهو مالا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل .
أى : تلك القصة التى قصصناها عليك يا محمد بهذا الأسلوب الحكيم ، من أخبار الغيب الماضية ، التى لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا .
ونحن { نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } ونعرفك بها عن طريق وحبنا الصادق الأمين .
وهذه القصة وأمثالها { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ } أنت يا محمد ، وما كان يعلمها { قومك } أيضا ، بهذه الصورة الصادقة الحكيمة ، الخالية من الأساطير والأكاذيب .
{ مِن قَبْلِ } هذا الوقت الذى أوحيناها إليك فيه .
وما دام الأمر كذلك { فاصبر } صبرا جميلا على تبليغ رسالتك ، وعلى أذى قومك كما صبر أخوك نوع من قبل .
وجملة { إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } تعليل للأمر بالصبر .
والعاقبة : الحالة التي تعقب حالة قبلها ، وقد شاعت عند الإِطلاق فى حالة الخير كما فى قوله - تعالى - { والعاقبة للتقوى } وأل فيها للجنس ، واللام فى قوله { لِلْمُتَّقِينَ } للاختصاص .
أى : أن العاقبة الحسنة الطيبة فى الدنيا والآخرة ، للمتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل مالا يرضى الله - تعالى - وليست لغيرهم ممن استحبوا العمى على الهدى .
والآية الكريمة تعقيب حكيم على قصة نوح - عليه السلام - قصد به الامتنان على النبى - صلى الله عليه وسلم - والموعظة ، والتسلية .
فالامتنان نراه فى قوله - تعالى - { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا } .
والموعظة نراها فى قوله - سبحانه - { فاصبر } .
والتسلية نراها فى قوله - عز وجل - { إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } .
وبعد ، فهذه قصة نوح - عليه السلام - كما وردت فى هذه السورة الكريمة ، ومن العبر والعظات والهدايات والحقائق التى نأخذها منها ما يأتى :
1 - الدلالة على صدق النبى - عليه السلام - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - ، فقد أخبرنا عن قصة نوح - عليه السلام - مع قومه ، وعن غيرها من القصص ، التى هى من أنباء الغيب ، والتى لا يعلم حقيقتها وتفاصيلها أحد سوى الله - عز وجل - .
2 - أن نوحا - عليه السلام - قد سلك فى دعوته إلى الله - تعالى - أحسن الأساليب وأحكمها ، فقد دعا قومه إلى عبادة الله - تعالى - وحده فى الليل وفى النهار ، وفى السر وفى العلانية ، وأقام لهم ألوانا من الأدلة على صدقه ، ورغبهم فى الإِيمان بشتى ألوان الترغيب ، وحذرهم من الكفر بشتى أنواع التحذي ، وصبر على آذاهم صبرا جميلا ، ورد على سفاهاتهم وأقوالهم بمنطق سليم ، أبطل بن حججهم . . مما جعلهم يكفون عن مناقشته ، ويلجأون إلى التحدى والتعنت .
وما أحود الدعاة إلى الله - عز وجل - إلى التماس العبرة والعظة من قصة نوح مع قومه .
3 - أن النسب مهما شرف وعظم لن ينفع صاحبه عند الله ، إلا إذا كان معه الإِيمان والعمل الصالح ، وأن الإِيمان والصلاح ليسا مرتبطين بالوراثة والأنساب لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت ذرية نوح ومن معه من المؤمنين الذين نجوا معه فى السفينة . كلها من المؤمنين الصالحين ، مع أن المشاهد غير ذلك .
ورحم الله الإِمام القرطبى فقد قال - ما ملخصه - عند تفسيره لقوله - تعالى - { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ . . } " وفى هذه الآية تسلية للآباء فى فساد أبنائهم وإن كان الآباء الصالحين " فقد روى أن ابنا لمالك بن أنس ارتكب أمرا لا يليق بمسلم ، فعلم بذلك مالك فقال : " الأدب أدب الله ، لا أدب الأباء والأمهات ، والخير خير الله ، لا خير الآباء والأمهات . . "
4 - أن سؤال نوح - عليه السلام - ما سأله لابنه لم يكن - كما قال صاحب المنار معصية لله - تعالى - خالف فيها أمره أو نهيه ، وإنما كان خطأ فى اجتهاده رأى بنية صالحة .
وإنما عدها الله - تعالى - ذنبا له لأنها كانت دون مقام العلم الصحيح اللائق بمنزلته من ربه ، هبطت بضعفه البشرى ، وما غرس فى الفطرة من الرحمة والرأفة بالأولاد إلى اتباع الظن ، ومثل هذا الاجتهاد لم يعصم منه الأنبياء ، فيقعون فيه أحيانا ليشعروا بحاجتهم إلى تأديب ربهم وتكميله إياهم آنا بعد آن ، بما يصعدون به فى معارج العرفان .
5 - إن القرآن فى إيراده للقصص والأخبار ، لا يهتم إلا بإبراز النافع المفيد منها ، أما ما عدا ذلك مما لا فائدة من ذكره ، فيهمل القرآن الحديث عنه .
فمثلا فى قصة نوح - عليه السلام - هنا ، لم يتعرض القرآن لبيان المدة التى قضاها نوح فى صنع السفينة ، ولا لبيان طول السفينة وعرضها وارتفاعها ، ولا لتفاصيل الأنواع التى حملها معه فى السفينة ، ولا لبيان الفترة التى عاشها نوح ومن معه فيها .
ولا لبيان المكان الذى هبط فيه نوح بعد أن استوت السفينة على الجودى .
. ولا لبيان الزمان الذى استغرقه الطوفان فوق الأرض .
وما ورد فى ذلك من أقوال وأخبار ، أكثرها من الإِسرائيليات التى لا يؤيدها دليل من الشرع أو العقل .
ومن المسائل التى تكلم عنها كثير من العلماء ، وذهبوا بشأنها مذاهب شتى مسألة الطوفان .
وقد أصدر الأستاذ الإِمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - فتوى فى هذا الشأن ، ملخصها كما يقول صاحب المنار : أن ظواهر القرآن الكريم والأحاديث أن الطوفان كن عاما شاملا لقوم نوح الذين لم يكن فى الأرض غيرهم فيجب اعتقاده ، ولكنه لا يقتضى أن يكون عاما للأرض ، إذ لا دليل على أنهم كانوا يملأون الأرض .
وهذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن ، ولذلك لم يبينها بنص قطعى ، فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهرا النصوص ، ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ، فإن أثبت العلم خلافه لا يضرنا ، لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا .
6 - أن سنة الله - تعالى - فى خلقه لا تتخلف ولا تتبدل وهى أن العاقبة للمتقين ، مهما طال الصراع بين الحق والباطل ، وبين الأخيار والأشرار .
فلقد لبث نوح - عليه السلام - فى قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، وقد لقى خلال تلك المدة الطويلة ما لقى من الأذى . . . ولكن كانت النتيجة فى النهاية نجاته ومن معه من المؤمنين ، وإغراق أعدائه بالطوفان العظيم .
ولقد أفاض صاحب الظلال - رحمه الله - وهو يتحدث عن هذا المعنى فقال ما ملخصه : " ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح ، لنرى قيمة الحفنة المسلمة فى ميزان الله - سبحانه - .
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح - عليه السلام - تذكر بعض الروايات ، أنهم اثنا عشر ، هم كانوا حصيلة دعوة نوح فى ألف سنة إلا خمسين عاما .
إن هذه الحفنة - وهى ثمرة ذلك العمر الطويل والجهد الطويل - ، قد استحقت أن يغير الله لها المألوف من ظواهر هذا الكون ، وأن يجرى لها ذلك الطوفان الذى يغمر كل شئ . . . وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هى وارثة الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها .
وهذه هى عبرة الحادث الكونى العظيم .
إنه لا ينبغى لأحد يواجه الجاهلية بالإِسلام ، أن يظن أن الله تاركه للجاهلية وهو يدعو إلى إفراد الله - سبحانه - بالربوبية . كما أنه لا ينبغى له أن يقبس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية فيظن أن الله تاركه لهذه القوى ، وهو عبده الذى يستنصر به حين يغلب فيدعوه : { أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } إن القوى فى حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة . . إن الجاهلية تملك قواها . . ولكن الداعى إلى اله يستند إلى قوة الله . والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب ! ! .
والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم أن يؤدوا واجبهم كاملا ، ثم يتركوا الأمور لله فى طمأنينة وثقة . وعندما يغلبون عليهم أن يلجأوا إلى الناصر المعين ، وأن يجأروا إليه وحده كما جأر عبده الصالح نوح : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } ثم عليهم أن ينتظروا فرج الله القريب ، وانتظار الفرج من الله عبادة ، فهم على هذا الانتظار مأجورون . . والعاقبة للمتقين .
القول في تأويل قوله تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هََذَا فَاصْبِرْ إِنّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتّقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه منْ أنْباءِ الغَيْبِ يقول : هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها ، نُوحيها إلَيْكَ يقول : نوحيها إليك نحن فنعرفكها ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا الوحي الذي نوحيه إليك ، فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقىَ من مشركي قومك ، كما صبر نوح . إنّ العاقِبَةَ للْمُتّقِينَ يقول : إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه فهم الفائزون بما يؤملون من النعيم في الاَخرة والظفر في الدنيا بالطّلِبة ، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله أن نجاه من الهلكة مع من آمن به وأعطاه في الاَخرة ما أعطاه من الكرامة ، وغرق المكذّبين به فأهلكهم جميعهم .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تِلْكَ مِنْ أنْباءِ الغَيْبِ نُوحِيها إلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا القرآن ، وما كان علم محمد صلى الله عليه وسلم وقومه ما صنع نوح وقومه ، لولا ما بين الله في كتابه .
{ تلك } إشارة إلى قصة نوح ومحلها الرفع بالابتداء وخبرها : { من أنباء الغيب } أي بعضها . { نوحيها إليك } خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك ، أو حال من ال { أنباء } أو هو الخبر و{ من أنباء } متعلق به أو حال من الهاء في { نوحيها } . { ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك ، أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف في { إليك } أي : جاهلا أنت وقومك بها ، وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يسمعوها فكيف بواحد منهم . { فاصبر } على مشاق الرسالة وأذية القوم كما صبر نوح . { إن العاقبة } في الدنيا بالظفر وفي الآخرة بالفوز . { للمتقين } عن الشرك والمعاصي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {تلك} القصة {من أنباء}، يعني من أحاديث {الغيب} غاب عنك، لم تشهدها يا محمد، ولم تعلمها إلا بوحينا، {نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت} يا محمد {ولا قومك من قبل هذا} القرآن حتى أعلمناك أمرهم في القرآن، يعني الأمم الخالية قوم نوح، وهود، وصالح، وغيرهم، {فاصبر} على تكذيب كفار مكة، وعلى أذاهم {إن العاقبة} يعني الجنة {للمتقين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه "منْ أنْباءِ الغَيْبِ "يقول: هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها، "نُوحيها إلَيْكَ" يقول: نوحيها إليك نحن فنعرفكها، "ما كُنْتَ تَعْلَمُها أنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا" الوحي الذي نوحيه إليك، فاصبر على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من مشركي قومك، كما صبر نوح. "إنّ العاقِبَةَ للْمُتّقِينَ" يقول: إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله فأدّى فرائضه واجتنب معاصيه فهم الفائزون بما يؤملون من النعيم في الآخرة والظفر في الدنيا بالطّلبة، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله أن نجاه من الهلكة مع من آمن به وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة، وغرق المكذّبين به فأهلكهم جميعهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل قوله (تلك من أنباء الغيب) القصص كلها قصة نوح وغيره من الأنبياء (من أنباء الغيب) غابت عنك، لم تشهدها، ولا تعلمها (أنت ولا قومك) خص قومه لأن غيره من الأقوام قد كانوا عرفوا تلك الأنباء، فيخبرونهم، فيعرفون به صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبرهم على ما أخبر أولئك الذين عرفوا تلك الأنباء بكسبهم ليعلم أنه إنما عرف ذلك بالله؛ إذ تلك الأنباء كانت بغير لسان، ولم يعرف أنه اختلف لأحد منهم، دل أنه إنما عرف بالله تعالى. وقوله تعالى: (فاصبر) يحتمل قوله: (فاصبر) على تكذيبهم إياك وعلى أذاهم، أو اصبر على ما أمرت ونهيت، أو اصبر على ما صبر إخوانك من قبل كقوله (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل) [الأحقاف: 35] ونحوه. وقوله تعالى: (إن العاقبة للمتقين) يشبه أن يكون قوله: (للمتقين) الذين اتقوا الشرك، والذين اتقوا الشرك والمعاصي كلها...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{إِنَّ الْعَاقِبَةَ} آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة {لِلْمُتَّقِينَ} كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أعلمناكَ بهذه الجملة، وأنبأناك بهذه القصص لما خصصناك من غير أن تتعلمَه من شخص، أو من قراءةِ كتاب؛ فإِنْ قابَلَكَ قومك بالتكذيب فاصبِرْ، فَعَنْ قريبٍ تنقلب هذه الأمور...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{تلك من أنباء الغيب...} إشارة إلى القصة، أي هذه من الغيوب التي تقادم عهدها ولم يبق علمها إلا عند الله تعالى، ولم يكن علمها أو علم أشباهها عندك ولا عند قومك، ونحن نوحيها إليك لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، وتكون لقومك مثالاً وتحذيراً، لئلا يصيبهم إذا كذبوك مثل ما أصاب هؤلاء وغيرهم من الأمور المعذبة... وعلى هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله: {فاصبر إن العاقبة للمتقين}، أي: فاجتهد في التبليغ وجد في الرسالة واصبر على الشدائد واعلم أن العاقبة لك كما كانت لنوح في هذه القصة...
قال: {فاصبر إن العاقبة للمتقين}.. وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه.
فإن قال قائل: إنه تعالى ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم إنه أعادها ههنا مرة أخرى، فما الفائدة في هذا التكرير؟ قلنا: إن القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه: ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب، فذكر تعالى قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش، فذكر الله تعالى هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار على الإيذاء، والإيحاش كان حاصلا في زمان نوح، إلا أنه عليه السلام لما صبر نال الفتح والظفر، فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خاليا عن الفائدة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تمت هذه القصة على النحو الوافي ببيان اجتهاد نوح عليه السلام في إبلاغ الإنذار من غير مراعاة إقبال ولا إدبار، وكانت مع ذلك دالة على علم تام واطلاع على دقائق لا سبيل إليها إلا من جهة الملك العلام، فهي على إزالة اللبس عن أمره صلى الله عليه وسلم أوضح من الشمس، قال تعالى منبهاً على ذلك: {تلك} أي هذه الأنباء البديعة الشأن الغريبة الأمر البعيدة عن طوق المعارض، العلية الرتب عن يد المتناول {من أنباء الغيب} أي أخباره العظيمة، ثم أشار إلى أنه لا يزال يجدد له أمثالها بالمضارع في قوله: {نوحيها إليك} فكأنه قيل: إن بعض أهل الكتاب يعلم بعض تفاصيلها، فأشار إلى أن ذلك مجموعة غيب وبما يعلمونه غيب نسبي بقوله: {ما كنت تعلمها} أي على هذا التفصيل {أنت} ولما كان خفاءها عن قومه دليلاً على خفائها عنه لأنه لم يخالط غيرهم قال: {ولا قومك} أي وإن كانوا أهل قوة في القيام على ما يحاولونه وعدداً كثيراً، ومنهم من يكتب ويخالط العلماء. ولما كان زمان خفاء ذلك عنهم -وإن كان عاماً لهم- بعض الزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل هذا} أي من إيحائي إليك حتى يطرق الوهم حينئذ أنك تعلمتها من أحد منهم وإن كان يعلم كثيراً منها أهل الكتاب كما رأيت عن نص التوراة فبان أن لا غرض لقومك إلا العناد {فاصبر} على ذلك ولا تفتر عن الإنذار فستكون لك العاقبة كما كانت لنوح لأجل تقواه {إن العاقبة} أي آخر الأمر من الفوز والنصر والسعادة {للمتقين} أي العريقين في مخافة الله في كل زمن، وقد تضمنت القصة البيان عما يوجبه حال أهل الخير والإيمان وأهل الشر والطغيان من الاعتبار بالنبأ عن الفريقين ليجتبي حال هؤلاء ويتقي حال أولئك لسوء العاقبة في الدنيا والآخرة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم يجيء التعقيب: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا، فاصبر إن العاقبة للمتقين). فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة: حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب، ما كان يعلمه النبي، وما كان معلوما لقومه، ولا متداولا في محيطه. إنما هو الوحي من لدن حكيم خبير. وحقيقة وحدة العقيدة من لدن نوح أبي البشر الثاني. فهي هي. والتعبير عنها يكاد يكون هو التعبير. وحقيقة تكرار الاعتراضات والاتهامات من المكذبين على الرغم من الآيات والعبر والبينات التي لا تمنع جيلا أن يرددها وقد بدت باطلة في جيل. وحقيقة تحقق البشرى والوعيد، كما يبشر النبي وينذر، وهذا شاهد من التاريخ. وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحابي ولا تحيد: (والعاقبة للمتقين).. فهم الناجون وهم المستخلفون. وحقيقة الرابطة التي تربط بين فرد وفرد وبين جيل وجيل.. إنها العقيدة الواحدة التي تربط المؤمنين كلهم في إله واحد ورب واحد يلتقون في الدينونة له بلا منازع ولا شريك...
إن الجاهلية تملك قواها.. ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله. والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية -حينما يشاء وكيفما يشاء- وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب! وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله.. ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما؛ قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله. ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلما.. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة، والتدمير على البشرية الضالة جميعا، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة تعمرها من جديد وتستخلف فيها. إن عصر الخوارق لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة -وفق مشيئة الله الطليقة- ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطا أخرى، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها. وقد تدق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها؛ ولكن الموصولين بالله يرون يد الله دائما، ويلابسون آثارها المبدعة. والذين يسلكون السبيل إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملا، بكل ما في طاقتهم من جهد؛ ثم يدعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة. وعندما يغلبون عليهم أن يلجؤوا إلى الناصر المعين وأن يجأروا إليه كما جأر عبده الصالح نوح: (فدعا ربه أني مغلوب، فانتصر).. ثم ينتظروا فرج الله القريب. وانتظار الفرج من الله عبادة؛ فهم على هذا الانتظار مأجورون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف أريد منه الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة والتسلية. فالامتنان من قوله: {ما كنت تعلمها}. والموعظة من قوله: {فاصبر} إلخ. والتّسلية من قوله: {إن العاقبة للمتقين}...
ووجه تفريع أمر الرسول بالصبر على هذه القصة أن فيها قياس حاله مع قومه على حال نوح عليه السّلام مع قومه، فكما صبر نوح عليه السّلام فكانت العاقبة له كذلك تكون العاقبة لك على قومك. وخبر نوح عليه السّلام مستفاد مما حكي من مقاومة قومه ومن ثباته على دعوتهم، لأن ذلك الثبات مع تلك المقاومة من مسمى الصبر. وجملة {إن العاقبة للمتقين} علة للصبر المأمور به، أي اصبر لأن داعي الصبر قائم وهو أن العاقبة الحسنة تكون للمتقين، فستكون لك وللمؤمنين معك. والعاقبة: الحالة التي تَعقب حالةً أخرى. وقد شاعت عند الإطلاق في حالة الخير كقوله: {والعاقبة للتّقوى} [طه: 132]...
واللام في {للمتقين} للاختصاص والملك، فيقتضي ملك المتقين لجنس العاقبة الحسنة، فهي ثابتة لهم لا تفوتهم وهي منتفية عن أضدادهم...
كأن الله سبحانه وتعالى علم رسوله صلى الله عليه وسلم قصة نوح عليه السلام وأراد بها إلقاء الأسوة وإلقاء العبرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثق بأن كل رسول إنما يصنع حركته الإيمانية المنهجية بعين من الله، وأنه سبحانه لن يسلمه إلى خصومه ولا أعدائه. ولذلك يأتي القول الكريم: {فاصبر}؛ لأنك قد عرفت الآن نتيجة صبر نوح عليه السلام الذي استمر ألف سنة إلا خمسين، ويأتي بعدها قوله سبحانه: {إن العاقبة للمتقين}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ بيان قصص الأنبياء (عليهم السلام) بالصورة الواقعية والخالية من أي نوع من أنواع التحريف والخرافة ممكن عن طريق الوحي السماوي فحسب، وإلاّ فإِنّ كتب تاريخ الماضين مليئة بالأساطير والقصص الخياليّة التي بلغت درجة لا يمكن معها معرفة الحق من الباطل، وكلما عدنا إلى الوراء أكثر وجدنا الخلط والتزييف أكثر. فعلى هذا، يعتبر بيان حال الأنبياء الماضين والأقوام السالفة بصورة سليمة وخالية من الخرافات والخزعبلات دليلا على حقانية القرآن والإسلام والنّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)...