فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{إِنَّ ٱللَّهَ عَٰلِمُ غَيۡبِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (38)

{ غيب } ما غاب

{ ذات الصدور } مضمرات النفوس والقلوب .

{ إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور 38 هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا 39 قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ما ذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينات منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا 40 إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا 41 }

شهد الله- وكفى به شهيدا- أنه أحاط علما بما في السماوات والأرض ما تبصرون منه وما لا تبصرون ، واستيقنوا وصدقوا تصديقا راسخا لا شك فيه أنه عليم بخفيات النوايا ، وما انطوت عليه البواطن ) . . ونعلم ما توسوس به نفسه . . ( {[3847]} ، فلولا علمه سبحانه بخبث نوايا المجرمين ، وبالغ عمى قلوب الكافرين لما خلدهم في عذاب الجحيم( ولوعلم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون( {[3848]}- . . . مظنة أن يقال : كيف يخلدون في العذاب وهم قد ظلموا في أيام معدودة ؟ فأجيب بأنه { عليم بذات الصدور } على معنى أنه تعالى يعلم ما انطوت عليه ضمائرهم فيعلم أنهم صمموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد-{[3849]}[ و { عالم } إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل ، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي ]{[3850]} .

مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن : وذات الصدور : صواحباتها من الظنون والعقائد ، فذو موضوع لمعنى الصحبة ، فالصدور ذات العقائد ، والعقائد ذات الصدور ، باعتبار أنها تصحبها ، وحين ذكرهم بما مر من أنه سوف يوبخهم بالتعمير- أي بأنه عمرهم مدة تكفي لتذكر من يريد تفكرا وشكورا وإتياء العقول ، وإرسال من يؤيد المعقول بالمنقول ، وعظهم بأنه { هو الذي جعلكم } . . للعدول عن خطاب أهل الآخرة إلى خطاب أهل الدنيا . . { خلائف في الأرض } كأنه قيل : أمهلتم ، وعمرتم ، وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم ، وجعلتم خلفاء الهالكين الماضين ، فأصبحتم بحالهم راضين{ فمن كفر } بعد هذا كله { فعليه } وبال{ كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا } لأن الكافر السابق ممقوت ، واللاحق الذي انتظر الرسول ولم ينتبه أمقت ، لأنه رأى عذاب من تقدمه ولم يتنبه . . اه . كلما استمروا على كفرهم من غير أن يزدجروا ، أو يتنبهوا فيعتبروا ، كلما مد الله تعالى لهم في العذاب مدا ، وخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ولقد أعذر الله تعالى إلى خلقه ، وأنذرهم على لسان أنبيائه ورسله ، فهود عليه السلام وعظ عادا بما بينه الكتاب العزيز ) . . واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون( {[3851]} .

ومما جاء في الآيات المباركات : )أتبنون بكل ريع آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين . فاتقوا الله وأطيعون . واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون( {[3852]} أمدكم بأنعام وبنين . وجنات وعيون . إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم . قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين )وصالح عليه السلام يعظ قومه يعدد آلاء الله الكريم الوهاب ، عسى أن يردهم استحضار فضل المنعم إلى شكره واستدامة نعمه ، كما في الآية الكريمة : )واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين( {[3853]} .

والذين كذبوا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم بكتهم الله وحذرهم مصير الذين بطروا معيشتهم ، وكفروا بأنعم الله : )ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون( {[3854]} وينذرهم أن كلمة العذاب حقت على الباغين ، وحيط عملهم : )كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة . . ( {[3855]} .

{ قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله } أمر الله تعالى نبيه أن يسأل المشركون سؤال تقريع وتبكيت : أخبروني وأعلموني عما زعمتموهم آلهة فأشركتموهم مع الله تعالى في العبادة !

{ أروني ماذا خلقوا من الأرض } أروني أي جزء من الأرض خلقوه حتى ساغ لكم أن تدعوا أنهم شركاء لله جل علاه ؟ ! و { أروني } بدل اشتمال من { أرأيتم } ، { أم لهم شرك في السماوات } بل ألهم مشاركة مع الله عز وجل في خلق السماوات أو ملكها أو تدبيرها ، والسلطان عليها وعلى من فيها وما فيها ؟ وحاشا ! لقد ضل عنهم ما يفترون .

{ أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه } بل أعطيناهم كتابا يشهد أنا اتخذنا هؤلاء لنا شركاء ؟ فهم على حجة ظاهرة موضحة أن لهم شركة معنا ؟ ! وذلك كالذي في سورة الأحقاف : )قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين( {[3856]} .

{ بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } بل ما يعد المتبوعون من المشركين أتباعهم من الضالين إلا عدة تغرر بهم ، وتخدعهم وتضلهم ، وما يعدهم الشيطان إلا بزخرف القول وباطله ، فقال المستكبرون للذين استضعفوا : ( . . هؤلاء شفعاؤنا عند الله . . ( {[3857]} ، وقالوا( . . ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . . ( {[3858]} .

{ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا } وبعد أن حصحص الحق في بطلان إفك المشركين ، وتبين عجز ما سوى الله الملك المتين ، ذكر سبحانه بأنه وحده حافظ السماوات والأرض والكون كله أن يميد أو يهلك ويبيد ، و{ أن تزولا } بمعنى : لئلا تزولا ، { ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده } ولو جاء أجل زوالهما والخلق جميعا ما يحفظهما ولا يستبقيهما أحد من بعد نفاذ مراد الله تعالى ، فإنه ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن ، { إنه كان حليما غفورا }- فلذا حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم مع عظيم جرمهم المقتضي لتعجيل العقوبة وعدم إمساك السماوات والأرض وتخريب العالم الذي هم فيه{[3859]} ، فلا يتوهم أن المقام يقتضي ذكر القدرة ، لا الحلم والمغفرة-{[3860]} .


[3847]:سورة ق. من الآية 16.
[3848]:سورة الأنفال. الآية 23.
[3849]:ما بين العارضتين مما جاء في روح المعاني.
[3850]:ما بين العلامتين [ ] من الجامع لأحكام القرآن.
[3851]:سورة الأعراف. من الآية 69.
[3852]:سورة الشعراء. الآيات: من 128 إلى 136.
[3853]:سورة الأعراف. الآية 74.
[3854]:سورة التوبة. الآية 70.
[3855]:سورة التوبة. من الآية 69.
[3856]:الآية 4.
[3857]:سورة يونس. من الآية 18.
[3858]:سورة الزمر. من الآية 3.
[3859]:قال الكلبي: لما قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله كادت السماوات والأرض أن تزولا عن أمكنتهما، فمنعهما الله، وأنزل هذه الآية فيه، وهو كقوله تعالى:)وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا. أن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا(. سورة مريم الآيات من 88 – 92.
[3860]:ما بين العارضتين من روح المعاني.