قوله تعالى : { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } عقيب دعائه وفيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من الفتح والأبواب والسماء حقائقها أو هو مجاز ؟ نقول فيه قولان أحدهما : حقائقها وللسماء أبواب تفتح وتغلق ولا استبعاد فيه ( وثانيهما ) : هو على طريق الاستعارة ، فإن الظاهر أن الماء كان من السحاب ، وعلى هذا فهو كما يقول القائل : في المطر الوابل جرت ميازيب السماء وفتح أفواه القرب أي كأنه ذلك ، فالمطر في الطوفان كان بحيث يقول القائل : فتحت أبواب السماء ، ولا شك أن المطر من فوق كان في غاية الهطلان .
المسألة الثانية : قوله تعالى : { ففتحنا } بيان أن الله انتصر منهم وانتقم بماء لا بجند أنزله ، كما قال تعالى : { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين ، إن كانت إلا صيحة واحدة } بيانا لكمال القدرة ، ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم بمطلوبهم .
المسألة الثالثة : الباء في قوله : { بماء منهمر } ما وجهه وكيف موقعه ؟ نقول فيه وجهان أحدهما : كما هي في قول القائل فتحت الباب بالمفتاح وتقديره هو أن يجعل كأن الماء جاء وفتح الباب وعلى هذا تفسير قول من يقول : يفتح الله لك بخير أي يقدر خيرا يأتي ويفتح الباب ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي من بدائع المعاني ، وهي أن يجعل المقصود مقدما في الوجود ، ويقول كأن مقصودك جاء إلى باب مغلق ففتحه وجاءك ، وكذلك قول القائل : لعل الله يفتح برزق ، أي يقدر رزقا يأتي إلى الباب الذي كالمغلق فيدفعه ويفتحه ، فيكون الله قد فتحه بالرزق ثانيهما : { فتحنا أبواب السماء } مقرونة { بماء منهمر } والانهمار الانسكاب والانصباب صبا شديدا ، والتحقيق فيه أن المطر يخرج من السماء التي هي السحاب خروج مترشح من ظرفه ، وفي ذلك اليوم كان يخرج خروج مرسل خارج من باب .
وما تكاد هذه الكلمات تقال ؛ وما يكاد الرسول يسلم الأمر لصاحبه الجليل القهار ، حتى تشير اليد القادرة القاهرة إلى عجلة الكون الهائلة الساحقة . . فتدور دورتها المدوية المجلجلة :
( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ) . .
وهي حركة كونية ضخمة غامرة تصورها ألفاظ وعبارات مختارة . تبدأ بإسناد الفعل إلى الله مباشرة : ( ففتحنا )فيحس القارئ يد الجبار تفتح ( أبواب السماء ) . . بهذا اللفظ وبهذا الجمع . ( بماء منهمر ) . . غزير متوال .
قوله جلّ ذكره : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاءٍ مُّنهْمَرٍ } .
كذب قوم نوح نبيَّهم ، وقالوا : إنه مجنون ، وزجروه وشتموه .
وقيل : { وَازْدُجِرَ } : أي استطار عَقْلهُ ، أي قومُ نوحٍ قالوا له ذلك .
فدعا ربَّه فقال : إِني مغلوب ؛ أي بتسلُّطِ قومي عليَّ ؛ فلم يكن مغلوباً بالحُجَّة لأنَّ الحُجَّةَ كانت عليهم ، فقال نوح لله : اللهمَّ فانتَصِرْ منهم أي انْتَقِمْ .
ففتحنا أبواب السماء بماءٍ مُنْصَبٍّ ، وشَقَقْنَا عيوناً بالماء ، فالتقي ماء السماءِ وماءُ الأرضِ على أمرٍ قد قُدِّرَ في اللوح المحفوظ ، وَقُدِرَ عليه بإهلاكهم !
وفي التفاسير : أن الماء الذي نَبَعَ من الأرضِ نَضَبَ . والماء الذي نزل من السماء هو البخارُ اليومَ .
{ فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } أي منصب ، وقيل : كثير قال الشاعر
: أعيناي جوداً بالدموع ( الهوامر ) *** على خير باد من معد وحاضر
والباء للآلة مثلها في فتحت الباب بالمفتاح ، وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ ، وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهاء انفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء . وهو الذي ذهب إليه الجمهور ، وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس .
/ أخرج ابن المنذر . وابن أبي حاتم عنه أنه قال : لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب ، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتفى الماآن ، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما ، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرح العيبة ، والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جداً ، والله تعالى أعلم .
ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم ، وقرأ ابن عامر . وأبو جعفر . والأعرج . ويعقوب { فَفَتَحْنَا } بالتشديد لكثرة الأبواب ، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة .