مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّمَا يَفۡتَرِي ٱلۡكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ} (105)

ثم إنه تعالى بين كونهم كذابين في ذلك القول فقال : { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المقصود منه أنه تعالى بين في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود ، ثم إنه تعالى في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصح وهم كذبوا فيه ، والدليل على كونهم كاذبين في ذلك القول وجوه : الأول : أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون ، ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول صلى الله عليه وسلم وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم . والثاني : أن أمر التعلم لا يتأتى في جلسة واحدة ولا يتم في الخفية ، بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المعلم إلى المتعلم أزمنة متطاولة ومددا متباعدة ، ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمدا عليه السلام يتعلم العلوم من فلان وفلان . الثالث : أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق ، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشارا إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا ، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان ؟

واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة باهرة ، فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها ، ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكة .

المسألة الثانية : في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش والدليل عليه أن كلمة «إنما » للحصر ، والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله تعالى ، وإلا من كان كافرا وهذا تهديد في النهاية .

فإن قيل : قوله : { لا يؤمنون بآيات الله } فعل وقوله : { وأولئك هم الكاذبون } اسم وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية قبيح فما السبب في حصوله ههنا ؟

قلنا : الفعل قد يكون لازما وقد يكون مفارقا ، والدليل عليه قوله تعالى : { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين } ذكره بلفظ الفعل ، تنبيها على أن ذلك السجن لا يدوم . وقال فرعون لموسى عليه السلام : { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } ذكره بصيغة الاسم تنبيها على الدوام ، وقال أصحابنا : إنه تعالى قال : { وعصى آدم ربه فغوى } ولا يجوز أن يقال إن آدم عاص وغاو ، لأن صيغة الفعل لا تفيد الدوام ، وصيغة الاسم تفيده .

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : قوله : { إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله } ذكر ذلك تنبيها على أن من أقدم على الكذب فكأنه دخل في الكفر ، ثم قال : { وأولئك هم الكاذبون } تنبيها على أن صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة دائمة . وهذا كما تقول : كذبت وأنت كاذب فيكون قولك وأنت كاذب زيادة في الوصف بالكذب . ومعناه : أن عادتك أن تكون كاذبا .

المسألة الثانية : ظاهر الآية يدل على أن الكاذب المفتري الذي لا يؤمن بآيات الله والأمر كذلك ، لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهية ونبوة الأنبياء ، وهذا الإنكار مشتمل على الكذب والافتراء . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن ؟ قال : " لا " ثم قرأ هذه الآية ، والله أعلم .