مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (111)

أما قوله : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } ففيه أبحاث :

البحث الأول : قال الزجاج : ( يوم ) منصوب على وجهين . أحدهما : أن يكون المعنى : { إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي } يعني أنه تعالى يعطي الرحمة والغفران في ذلك اليوم الذي يعظم احتياج الإنسان فيه إلى الرحمة والغفران . والثاني : أن يكون التقدير : وذكرهم أو اذكر يوم كذا وكذا ، لأن معنى القرآن العظمة والإنذار والتذكير .

البحث الثاني : لقائل أن يقول : النفس لا تكون لها نفس أخرى ، فما معنى قوله : { كل نفس تجادل عن نفسها } ؟

والجواب : النفس قد يراد به بدن الحي وقد يراد به ذات الشيء وحقيقته ، فالنفس الأولى هي الجثة والبدن . والثانية : عينها وذاتها ، فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ولا يهمه شأن غيره . قال تعالى : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } وعن بعضهم : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول : يا رب نفسي نفسي حتى أن إبراهيم الخليل عليه السلام يفعل ذلك . ومعنى المجادلة عنها : الاعتذار عنها كقولهم : { هؤلاء أضلونا السبيل } وقولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } .

ثم قال تعالى : { وتوفى كل نفس ما عملت } فيه محذوف ، والمعنى : توفى كل نفس جزاء ما عملت من غير بخس ولا نقصان ، وقوله : { وهم لا يظلمون } قال الواحدي : معناه لا ينقضون . قال القاضي : هذه الآية من أقوى ما يدل على ما نذهب إليه في الوعيد ، لأنها تدل على أنه تعالى يوصل إلى كل أحد حقه من غير نقصان ، ولو أنه تعالى أزال عقاب المذنب بسبب الشفاعة لم يصح ذلك .

والجواب : لا نزاع أن ظاهر العمومات يدل على قولكم ، إلا أن مذهبنا أن التمسك بظواهر العمومات لا يفيد القطع ، وأيضا فظواهر الوعيد معارضة بظواهر الوعد ، ثم بينا في سورة البقرة في تفسير قوله : { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } أن جانب الوعد راجح على جانب الوعيد من وجوه كثيرة ، والله أعلم .