إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِنَّمَا يَفۡتَرِي ٱلۡكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ} (105)

وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } ، ردٌّ لقولهم : إنما أنت مفترٍ ، وقلبٌ للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون ، بعد رده بتحقيق أنه منزلٌ من عند الله بواسطة روحِ القدس ، وإنما وُسّط بينهما قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ } الآية ، لما لا يخفى من شدة اتصالِه بالرد الأول ، والمعنى : والله تعالى أعلم أن المفتريَ هو الذي يكذّب بآيات الله ، ويقول : إنه افتراءٌ ومعلَّمٌ من البشر ، أي : تكذيبُها على الوجه المذكور هو الافتراءُ على الحقيقة ؛ لأن حقيقتَه الكذبُ ، والحكم بأن ما هو كلامُه تعالى ليس بكلامه تعالى في كونه كذباً وافتراءً كالحكم بأن ما ليس بكلامه تعالى كلامُه تعالى ، والتصريحُ بالكذب للمبالغة في بيان قُبحِه ، وصيغةُ المضارع لرعاية المطابقة بينه وبين ما هو عبارةٌ عنه ، أعني قوله : لا يؤمنون ، وقيل : المعنى إنما يفتري الكذبَ ، ويليق ذلك بمن لا يؤمن بآيات الله ؛ لأنه لا يترقب عقاباً عليه ليرتدعَ عنه ، وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقت به من العقاب ، فلا يمكن أن يصدر عنه افتراءٌ البتةَ ، { وَأُوْلئِكَ } ، الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمانِ بآيات الله{ هُمُ الكاذبون } على الحقيقة ، أو الكاملون في الكذب ؛ إذ لا كذِبَ أعظمُ من تكذيب آياتِه تعالى والطعنِ فيها بأمثال هاتيك الأباطيلِ ، والسرُّ في ذلك أن الكذِبَ الساذَجَ الذي هو عبارةٌ عن الإخبار بعدم وقوعِ ما هو واقعٌ في نفس الأمرِ ، بخلق الله تعالى أو بوقوعِ ما لم يقعْ كذلك مدافعةٌ لله تعالى في فعله فقط ، والتكذيبُ مدافعةٌ له سبحانه في فعله وقولِه المنبئ عنه معاً ، أو الذين عادتُهم الكذبُ لا يزَعُهم عنه وازعٌ من دين أو مروءةٍ ، وقيل : الكاذبون في قولهم : إنما أنت مفتر .