مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

{ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ، ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } .

اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك ههنا قصة ولادته ، وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء ، شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات ، وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى : { فلما أحس عيسى منهم } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما : أن يجري اللفظ على ظاهره ، وهو أنهم تكلموا بالكفر ، فأحس ذلك بإذنه والثاني : أن نحمله على التأويل ، وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر ، وعزمهم على قتله ، ولما كان ذلك العلم علما لا شبهة فيه ، مثل العلم الحاصل من الحواس ، لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس .

المسألة الثانية : اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول : قال السدي : أنه تعالى لما بعثه رسولا إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفي عنهم ، وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فكان مستضعفا ، وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفي النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ، وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض ، فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوما حزينا ، فسأله عيسى عن السبب فقال : ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوما يطعمه ويسقيه هو وجنوده ، وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي ، فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك ، قالت : يا بني ادع الله ليكفي ذلك ، فقال : يا أماه إن فعلت ذلك كان شر ، فقالت : قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام : إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ، فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخا ، وما في الخوابي خمرا ، فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر ؟ فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال : إن من دعا الله حتى جعل الماء خمرا إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب ، وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام ، فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك ، فقال عيسى : لا نفعل ، فإنه إن عاش كان شرا ، فقال : ما أبالي ما كان إذا رأيته ، وإن أحييته تركتك على ما تفعل ، فدعا الله عيسى ، فعاش الغلام ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا ، وصار أمر عيسى عليه السلام مشهورا في الخلق ، وقصد اليهود قتله ، وأظهروا الطعن فيه والكفر به .

والقول الثاني : إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة ، وأنه ينسخ دينهم ، فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه ، طالبين قتله ، فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم ، وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله .

والقول الثالث : إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجح فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم { من أنصارى إلى الله } فما أجابه إلا الحواريون ، فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله .

أما قوله تعالى : { قال من أنصارى إلى الله } ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : في الآية أقوال الأول : أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين ، وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك ، وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثني عشر فقال عيسى عليه السلام : الآن تصيد السمك ، فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد ، فطلبوا منه المعجزة ، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئا فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى ، فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه ، واستعانوا بأهل سفينة أخرى ، وملؤوا السفينتين ، فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام .

والقول الثاني : أن قوله { من أنصارى إلى الله } إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلبا لقتله ، ثم ههنا احتمالات الأول : أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين : أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ؟ .

فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم : أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بأذنه ، فقال له عيسى : حسبك ثم أخذ أذن العبد فردها إلى موضعها ، فصارت كما كانت ، والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه .

والاحتمال الثاني : أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى { فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين } [ الصف : 14 ] .

المسألة الثانية : قوله { إلى الله } فيه وجوه الأول : التقدير : من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله والثاني : التقدير : من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى ، وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ، ويظهر أمر الله تعالى الثالث : قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي معها ، وقال صلى الله عليه وسلم : « الذود إلى الذود إبل » أي مع الذود .

قال الزجاج : كلمة { إلى } ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول : ذهب زيد مع عمرو لأن { إلى } تفيد الغاية و { مع } تفيد ضم الشيء إلى الشيء ، بل المراد من قولنا أن { إلى } ههنا بمعنى { مع } هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم ، وكذلك قوله عليه السلام : « الذود إلى الذود إبل » معناه : الذود مضموما إلى الذود إبل والرابع : أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ضحى « اللهم منك وإليك » أي تقربا إليك ، ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياه { إلى } أي انضم إلى ، فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى الخامس : أن يكون { إلى } بمعنى اللام كأنه قال : من أنصاري لله نظيره قوله تعالى : { قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق } [ يونس : 35 ] والسادس : تقدير الآية : من أنصاري في سبيل الله . و ( إلى ) بمعنى ( في ) جائز ، وهذا قول الحسن .

أما قوله تعالى : { قال الحواريون نحن أنصار الله } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : ذكروا في لفظ { الحواري } وجوها الأول : أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل ، وخالصته ، ومنه يقال للدقيق حواري ، لأنه هو الخالص منه ، وقال صلى الله عليه وسلم للزبير : « إنه ابن عمتي ، وحواري من أمتي » والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود ، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم .

القول الثاني : الحواري أصله من الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه قيل للدقيق حواري ، ومنه الأحور ، والحور نقاء بياض العين ، وحورت الثياب : بيضتها ، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم ؟ فقال سعيد بن جبير : لبياض ثيابهم ، وقيل كانوا قصارين ، يبيضون الثياب ، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحا لهم ، وإشارة إلى نقاء قلوبهم ، كالثوب الأبيض ، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب ، طاهر الذيل ، إذا كان بعيدا عن الأفعال الذميمة ، وفلان دنس الثياب : إذا كان مقدما على ما لا ينبغي .

القول الثالث : قال الضحاك : مر عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب ، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري ، وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري ، وقال مقاتل بن سليمان : الحواريون : هم القصارون ، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلا على خواص الرجل وبطانته .

المسألة الثانية : اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا ؟ .

فالقول الأول : إنه عليه السلام مر بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم «تعالوا نصطاد الناس » قالوا : من أنت ؟ قال : «أنا عيسى ابن مريم ، عبد الله ورسوله » فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به ، فهم الحواريون .

القول الثاني : قالوا : سلمته أمه إلى صباغ ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا كان هو اعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته ، فقال له : ههنا ثياب مختلفة ، وقد علمت على كل واحد علامة معينة ، فاصبغها بتلك الألوان ، بحيث يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جبا واحدا ، وجعل الجميع فيه وقال : «كوني بإذن الله كما أريد » فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت علي الثياب ، قال : «قم فانظر » فكان يخرج ثوبا أحمر ، وثوبا أخضر ، وثوبا أصفر كما كان يريد ، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه ، وآمنوا به فهم الحواريون .

القول الثالث : كان الحواريون اثني عشر رجلا اتبعوا عيسى عليه السلام ، وكانوا إذا قالوا : يا روح الله جعنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا يا روح الله : عطشنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج الماء فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنا بك فقال : «أفضل منكم من يعمل بيده ، ويأكل من كسبه » فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ، فسموا حواريين .

القول الرابع : أنهم كانوا ملوكا قالوا وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما ، وجمع الناس عليه ، وكان عيسى عليه السلام على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : تعرفونه ، قالوا : نعم ، فذهبوا بعيسى عليه السلام ، قال : من أنت ؟ قال : أنا عيسى بن مريم ، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم الحواريون قال القفال : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السمك ، وبعضهم من القصارين ، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام ، وأعوانه ، والمخلصين في محبته ، وطاعته ، وخدمته .

المسألة الثالثة : المراد من قوله { نحن أنصار الله } أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه ، لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال ، فالمراد منه ما ذكرناه .

أما قوله { آمنا بالله } فهذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله ، لأجل أنا آمنا بالله ، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله ، والذب عن أوليائه ، والمحاربة مع أعدائه .

ثم قالوا : { واشهد بأنا مسلمون } وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم ، إشهاد لله تعالى أيضا ، ثم فيه قولان الأول : المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك ، والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني : أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام ، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم .