مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّۚ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (62)

{ إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ، فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله { إن هذا } إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل ، ومن الدعاء إلى المباهلة { لهو القصص الحق } والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ، ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره ، والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل .

المسألة الثانية : { هو } في قوله { لهو القصص الحق } فيه قولان أحدهما : أن يكون فصلا وعمادا ، ويكون خبر { إن } هو قوله { القصص الحق } .

فإن قيل : فكيف جاز دخول اللام على الفصل ؟ .

قلنا : إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود ، لأنه أقرب إلى المبتدأ منه ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ .

والقول الثاني : إنه مبتدأ ، والقصص خبره ، والجملة خبر { إن } .

المسألة الثالثة : قرىء { لهو } بتحريك الهاء على الأصل ، وبالسكون لأن اللام ينزل من { هو } منزلة بعضه فخفف كما خفف عضد .

المسألة الرابعة : يقال : قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا ، وأصله اتباع الأثر ، يقال : خرج فلان قصصا ، وفي أثر فلان ، وقصا ، وذلك إذا اقتص أثره ، ومنه قوله تعالى : { وقالت لأخته قصيه } [ القصص : 11 ] وقيل للقاص إنه قاص لاتباعه خبرا بعد خبر ، وسوقه الكلام سوقا ، فمعنى القصص الخبر المشتمل على المعاني المتتابعة .

ثم قال : { وما من إله إلا الله } وهذا يفيد تأكيد النفي ، لأنك لو قلت عندي من الناس أحد ، أفاد أن عندك بعض الناس ، فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد ، أفاد أنه ليس عندك بعضهم ، وإذا لم يكن عندك بعضهم ، فبأن لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله { وما من إله إلا الله } مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى .

ثم قال : { وإن الله لهو العزيز الحكيم } وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى ، وذلك لأن اعتمادهم على أمرين أحدهما : أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فكأنه تعالى قال : هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون عزيزا غالبا لا يدفع ولا يمنع ، وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك ، وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه ؟ والثاني : أنهم قالوا : إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها ، فيكون إلها ، فكأنه تعالى قال : هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلهية ، بل لا بد وأن يكون حكيما ، أي عالما بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور ، فذكر { العزيز الحكيم } ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم } [ آل عمران : 6 ] .