مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗا وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} (46)

أما قوله تعالى : { ويكلم الناس في المهد وكهلا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : الواو للعطف على قوله { وجيها } والتقدير كأنه قال : وجيها ومكلما للناس وهذا عندي ضعيف ، لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا للضرورة ، أو الفائدة والأولى أن يقال تقدير الآية { إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين ، وهذا المجموع جملة واحدة ، ثم قال : { ويكلم الناس } فقوله { ويكلم الناس } عطف على قوله { إن الله يبشرك } .

المسألة الثانية : في المهد قولان أحدهما : أنه حجر أمه والثاني : هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع ، وكيف كان المراد منه : فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ، ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه أو كان في المهد .

المسألة الثالثة : قوله { وكهلا } عطف على الظرف من قوله { في المهد } كأنه قيل : يكلم الناس صغيرا وكهلا وههنا سؤالات :

السؤال الأول : ما الكهل ؟ .

الجواب : الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه ، وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى :

يضاحك الشمس منها كوكب شرق *** مؤزر بحميم النبت مكتهل

أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال .

السؤال الثاني : أن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات ، فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات ، فما الفائدة في ذكره ؟ .

والجواب : من وجوه الأول : أن المراد منه بيان كونه متقلبا في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإله تعالى محال ، والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم : إن عيسى كان إلها والثاني : المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ، ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة والثالث : قال أبو مسلم : معناه أنه يكلم حال كونه في المهد ، وحال كونه كهلا على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز الرابع : قال الأصم : المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة .

السؤال الثالث : نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثا وثلاثين سنة وستة أشهر ، وعلى هذا التقدير : فهو ما بلغ الكهولة .

والجواب : من وجهين الأول : بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين ، فصح وصفه بكونه كهلا في هذا الوقت والثاني : هو قول الحسين بن الفضل البجلي : أن المراد بقوله { وكهلا } أن يكون كهلا بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناس ، ويقتل الدجال ، قال الحسين بن الفضل : وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض .

المسألة الرابعة : أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد ، واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ، ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ، لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ومتى حدثت الواقعة العجيبة جدا عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغا حد التواتر ، وإخفاء ما يكون بالغا إلى حد التواتر ممتنع ، وأيضا فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء ههنا ممتنعا لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلها ، ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفا فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى ، ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجودا البتة .

أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة ، وقالوا : إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة ، وكان الحاضرون جمعا قليلين ، فالسامعون لذلك الكلام ، كان جمعا قليلا ، ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء ، وبتقدير : أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت ، فهم أيضا قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوما مخفيا إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأيضا فليس كل النصارى ينكرون ذلك ، فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب : لما قرأ على النجاشي سورة مريم ، قال النجاشي : لا تفاوت بين واقعة عيسى ، وبين المذكور في هذا الكلام بذرة .

ثم قال تعالى : { ومن الصالحين } .

فإن قيل : كون عيسى كلمة من الله تعالى ، وكونه { وجيها في الدنيا والآخرة } وكونه من المقربين عند الله تعالى ، وكونه مكلما للناس في المهد ، وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحا فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله { ومن الصالحين } ؟ .

قلنا : إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحا لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظبا على النهج الأصلح ، والطريق الأكمل ، ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب ، وفي أفعال الجوارح ، فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات .