قوله تعالى : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم * وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم } .
اعلم أنه تعالى لما بين أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين ، بين أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين ، كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنا ، فإن حملة العرش معك والحافون من حول العرش معك ينصرونك وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى حكى عن نوعين من فرق الملائكة هذه الحكاية :
القسم الأول : { الذين يحملون العرش } وقد حكى تعالى أن الذين يحملون العرش يوم القيامة ثمانية ، فيمكن أن يقال الذين يحملون في هذا الوقت هم أولئك الثمانية الذين يحملونه يوم القيامة ، ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم ، روى صاحب «الكشاف » أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله ، وقدماه في الأرض السفلى ، وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوضع » قيل إنه طائر صغير ، وروي أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدو ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة ، وقيل خلق الله العرش من جوهرة خضراء ، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ، وقيل حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ، ما منهم أحد إلا ويسبح بما لا يسبح به الآخر ، هذه الآثار نقلتها من «الكشاف » .
وأما القسم الثاني : من الملائكة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقوله تعالى : { ومن حوله } والأظهر أن المراد منهم ما ذكره في قوله { وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم } وأقول العقل يدل على أن حملة العرش ، والحافين حول العرش يجب أن يكونوا أفضل الملائكة ، وذلك لأن نسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأجساد إلى الأجساد ، فلما كان العرش أشرف الموجودات الجسمانية كانت الأرواح المتعلقة بتدبير العرش يجب أن تكون أفضل من الأرواح المدبرة للأجساد ، وأيضا يشبه أن يكون هناك أرواح حاملة لجسم العرش ثم يتولد عن تلك الأرواح القاهرة المستعلية لجسم العرش أرواح أخر من جنسها ، وهي متعلقة بأطراف العرش وإليهم الإشارة بقوله { وترى الملائكة حافين من حول العرش } وبالجملة فقد ظهر بالبراهين اليقينية ، وبالمكاشفات الصادقة أنه لا نسبة لعالم الأجساد ، إلى عالم الأرواح فكل ما شاهدته بعين البصر في اختلاف مراتب عالم الأجساد ، فيجب أن تشاهده بعين بصيرتك في اختلاف مراتب عالم الأرواح .
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أنه سبحانه منزه عن أن يكون في العرش ، وذلك لأنه تعالى قال في هذه الآية { الذين يحملون العرش } وقال في آية أخرى { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ولا شك أن حامل العرش يكون حاملا لكل من في العرش ، فلو كان إله العالم في العرش لكان هؤلاء الملائكة حاملين لإله العالم فحينئذ يكونون حافظين لإله العالم والحافظ القادر أولى بالإلهية والمحمول المحفوظ أولى بالعبودية ، فحينئذ ينقلب الإله عبدا والعبد إلها ، وذلك فاسد ، فدل هذا على أن إله العرش والأجسام متعال عن العرش والأجسام .
واعلم أنه تعالى حكى عن حملة العرش ، وعن الحافين بالعرش ثلاثة أشياء :
النوع الأول : قوله { يسبحون بحمد ربهم } ونظيره قوله حكاية عن الملائكة { ونحن نسبح بحمدك } وقوله تعالى : { وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم } فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي ، والتحميد الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق ، فالتسبيح إشارة إلى الجلال والتحميد إشارة إلى الإكرام ، فقوله { يسبحون بحمد ربهم } قريب من قوله { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } .
النوع الثاني : مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى : { ويؤمنون به } فإن قيل فأي فائدة في قوله { ويؤمنون به } فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله ؟ قلنا الفائدة فيه ما ذكره صاحب «الكشاف » ، وقد أحسن فيه جدا فقال إن المقصود منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه ، ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء ، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء ، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم ، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضرا جالسا هناك ، ورحم الله صاحب «الكشاف » فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرا وشرفا .
النوع الثالث : مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة قوله تعالى : { ويستغفرون للذين ءامنوا } اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدما على الشفقة على خلق الله فقوله { يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به } مشعر بالتعظيم لأمر الله وقوله { ويستغفرون للذين ءامنوا } مشعر بالشفقة على خلق الله .
المسألة الأولى : احتج كثير من العلماء بهذه الآية في إثبات أن الملك أفضل من البشر ، قالوا لأن هذه الآية تدل على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله بالثناء والتقديس اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون ، وهذا يدل على أنهم مستغنون عن الاستغفار لأنفسهم إذ لو كانوا محتاجين إليه لقدموا الاستغفار لأنفسهم على الاستغفار لغيرهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : «ابدأ بنفسك » وأيضا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } فأمر محمدا أن يذكر أولا الاستغفار لنفسه ، ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره ، وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال : { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات } وهذا يدل على أن كل من كان محتاجا إلى الاستغفار فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره ، فالملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لكان اشتغالهم بالاستغفار لأنفسهم مقدما على اشتغالهم بالاستغفار لغيرهم ، ولما لم يذكر الله تعالى عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أن ذلك إنما كان لأنهم ما كانوا محتاجين إلى الاستغفار ، وأما الأنبياء عليهم السلام فقد كانوا محتاجين إلى استغفار بدليل قوله تعالى لمحمد عليه السلام { واستغفر لذنبك } وإذا ثبت هذا فقد ظهر أن الملك أفضل من البشر ، والله أعلم .
المسألة الثانية : احتج الكعبي بهذه الآية على أن تأثير الشفاعة في حصول زيادة الثواب للمؤمنين لا في إسقاط العقاب عن المذنبين ، قال وذلك لأن الملائكة قالوا { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } قال وليس المراد فاغفر للذين تابوا من الكفر سواء كان مصرا على الفسق أو لم يكن كذلك ، لأن من هذا حاله لا يوصف بكونه متبعا سبيل ربه ولا يطلق ذلك فيه ، وأيضا إن الملائكة يقولون { وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } وهذا لا يليق بالفاسقين ، لأن خصومنا لا يقطعون على أن الله تعالى وعدهم الجنة وإنما يجوزون ذلك ، فثبت أن شفاعة الملائكة لا يتناول إلا أهل الطاعة ، فوجب أن تكون شفاعة الأنبياء كذلك ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق والجواب أن نقول هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة المذنبين ، فنبين هذا ثم نجيب عما ذكره الكعبي ، أما بيان دلالة هذه الآية على ما قلناه فمن وجوه : ( الأول ) قوله { ويستغفرون للذين ءامنوا } والاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب . أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفارا ( الثاني ) قوله تعالى : { ويستغفرون للذين ءامنوا } وهذا يدل على أنهم يستغفرون لكل أهل الإيمان ، فإذا دللنا على أن صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة ( الثالث ) قوله تعالى : { فاغفر للذين تابوا } طلب المغفرة للذين تابوا ، ولا يجوز أن يكون المراد إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة ، لأن ذلك واجب على الله عند الخصم ، وما كان فعله واجبا كان طلبه بالدعاء قبيحا ، ولا يجوز أيضا أن يكون المراد إسقاط عقوبة الصغائر ، لأن ذلك أيضا واجب فلا يحسن طلبه بالدعاء ، ولا يجوز أن يكون المراد طلب زيادة منفعة على الثواب ، لأن ذلك لا يسمى مغفرة ، فثبت أنه لا يمكن حمل قوله { فاغفر للذين تابوا } إلا على إسقاط عقاب الكبيرة قبل التوبة ، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء لانعقاد الإجماع على أنه لا فرق ، أما الذي يتمسك به الكعبي وهو أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا ، فنقول يجب أن يكون المراد منه الذين تابوا عن الكفر واتبعوا سبيل الإيمان ، وقوله إن التائب عن الكفر المصر على الفسق لا يسمى تائبا ولا متبعا سبيل الله ، قلنا لا نسلم قوله ، بل يقال إنه تائب عن الكفر وتابع سبيل الله في الدين والشريعة ، وإذا ثبت أنه تائب عن الكفر ثبت أنه تائب ، ألا ترى أنه يكفي في صدق وصفه بكونه ضاربا وضاحكا صدور الضرب والضحك عنه مرة واحدة ، ولا يتوقف ذلك على صدور كل أنواع الضرب والضحك عنه فكذا هاهنا .
المسألة الثالثة : قال أهل التحقيق : إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن ذلة سبقت ، وذلك لأنهم قالوا في أول تخليق البشر { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فلما سبق منهم هذا الكلام تداركوا في آخر الأمر بأن قالوا { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } وهذا كالتنبيه على أن من آذى غيره ، فالأولى أن يجبر ذلك الإيذاء بإيصال نفع عليه .
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الملائكة أنهم يستغفرون للذين تابوا ، بين كيفية ذلك الاستغفار ، فحكى عنهم أنهم قالوا { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أن الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفط { ربنا } ويدل عليه أن الملائكة عند الدعاء قالوا { ربنا } بدليل هذه الآية ، وقال آدم عليه السلام { ربنا ظلمنا أنفسنا } وقال نوح عليه السلام { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } وقال أيضا : { رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا } وقال أيضا : { رب اغفر لي ولوالدي } وقال عن إبراهيم عليه السلام : { رب أرني كيف تحيي الموتى } وقال : { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وقال : { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } وقال عن يوسف { رب قد اتيتني من الملك } وقال عن موسى عليه السلام : { رب أرني أنظر إليك } وقال في قصة الوكز { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين } وحكى تعالى عن داود { فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } وعن سليمان أنه قال : { رب اغفر لي وهب لي ملكا } وعن زكريا أنه { نادى ربه نداء خفيا } وعن عيسى عليه السلام أنه قال : { ربنا أنزل علينا مائدة من السماء } وعن محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال له : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } وحكى عن المؤمنون أنهم قالوا { ربنا ما خلقت هذا باطلا } وأعادوا هذه اللفظة خمس مرات ، وحكى أيضا عنهم أنهم قالوا { غفرانك ربنا وإليك المصير } إلى آخر السورة .
فثبت بما ذكرنا أن من أرضى الدعاء أن ينادي العبد ربه بقوله يا رب وتمام الإشكال فيه أن يقال لفظ الله أعظم من لفظ الرب ، فلم صار لفظ الرب مختصا بوقت الدعاء ؟ والجواب كأن العبد يقول : كنت في كتم العدم المحض والنفي الصرف ، فأخرجتني إلى الوجود ، وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك وإحسانك وفضلك .
المسألة الثانية : السنة في الدعاء ، يبدأ فيه بالثناء على الله تعالى ، ثم يذكر الدعاء عقيبه ، والدليل عليه هذه الآية ، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين بدأوا بالثناء فقالوا { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } وأيضا أن الخليل عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء ذكر الثناء أولا فقال : { الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } فكل هذا ثناء على الله تعالى ، ثم بعده ذكر الدعاء فقال : { رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين } .
واعلم أن العقل يدل أيضا على رعاية هذا الترتيب ، وذلك ذكر الله بالثناء والتعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس ، فكما أن ذرة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكل ذهبا إبريزا فكذلك إذا وقعت ذرة من إكسير معرفة جلال الله تعالى على جوهر الروح النطقية ، انقلب من نحوسة النحاسة إلى صفاء القدس وبقاء عالم الطهارة ، فثبت أن عند إشراق نور معرفة الله تعالى في جواهر الروح ، يصير الروح أقوى صفاء وأكمل إشراقا ، ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل ، فكان حصول الشيء المطلوب بالدعاء أقرب وأكمل ، وهذا هو السبب في تقديم الثناء على الله على الدعاء .
المسألة الثالثة : اعلم أن الملائكة وصفوا الله تعالى بثلاثة أنواع من الصفات : الربوبية والرحمة والعلم ، أما الربوبية فهي إشارة إلى الإيجاد والإبداع ، وفيه لطيفة أخرى وهي أن قولهم { ربنا } إشارة إلى التربية ، والتربية عبارة عن إبقاء الشيء على أكمل أحواله وأحسن صفاته ، وهذا يدل على أن هذه الممكنات ، كما أنها محتاجة حال حدوثها إلى إحداث الحق سبحانه وتعالى وإيجاده ، فكذلك إنها محتاجة حال بقائها إلى إبقاء الله ، وأما الرحمة فهي إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر ، وأنه تعالى إنما خلق الخلق للرحمة والخير ، لا للاضرار والشر ، فإن قيل قوله { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } فيه سؤال ، لأن العلم وسع كل شيء ، أما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء ، لأن المضرور حال وقوعه في الضر لا يكون ذلك الضرر رحمة ، وهذا السؤال أيضا مذكور في قوله { ورحمتي وسعت كل شيء } قلنا كل وجود فقد نال من رحمة الله تعالى نصيبا وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن ، أما الواجب فليس إلا الله سبحانه وتعالى ، وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده ، وذلك رحمة ، فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد وصل إليه نصيب ونصاب من رحمة الله ، فلهذا قال : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } وفي الآية دقيقة أخرى ، وهي أن الملائكة قدموا ذكر الرحمة على ذكر العلم فقالوا { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } وذلك لأن مطلوبهم إيصال الرحمة وأن يتجاوز عما عليه منهم من أنواع الذنوب ، فالمطلوب بالذات هو الرحمة ، والمطلوب بالعرض أن يتجاوز عما علمه منهم ، والمطلوب بالذات مقدم على المطلوب بالعرض ، ألا ترى أنه لما كان إبقاء الصحة مطلوبا بالذات وإزالة المرض مطلوبا بالعرض لا جرم لما ذكروا حد الطب قدموا فيه حفظ الصحة على إزالة المرض ، فقالوا الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصلح ويزول عن الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة ، فكذا هاهنا المطلوب بالذات هو الرحمة ، وأما التجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب فهو مطلوب بالعرض ، لأجل أن حصول الرحمة على سبيل الكمال لا يحصل إلا بالتجاوز عن الذنوب ، فلهذا السبب وقع ذكر الرحمة سابقا على ذكر العلم .
المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على أن المقصود بالقصة الأولى في الخلق والتكوين إنما هو الرحمة والفضل والجود والكرم ، ودلت الدلائل اليقينية على أن كل ما دخل في الوجود من أنواع الخير والشر والسعادة والشقاوة فبقضاء الله وقدره ، والجمع بين هذين الأصلين في غاية الصعوبة ، فعند هذا قالت الحكماء : الخير مراد مرضي ، والشر مراد مكروه ، والخير مقضي به بالذات ، والشر مقضي به بالعرض ، وفيه غور عظيم .
المسألة الخامسة : قوله { وسعت كل شيء رحمة وعلما } يدل على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات ، وأيضا فلولا ذلك لم يكن في الدعاء والتضرع فائدة لأنه إذا جاز أن يخرج عن علمه بعض الأشياء ، فعلى هذا التقدير لا يعرف هذا الداعي أن الله سبحانه يعلمه ويعلم دعاءه وعلى هذا التقدير لا يبقى في الدعاء فائدة البتة .
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم كيفية ثنائهم على الله تعالى حكى عنهم كيفية دعائهم ، وهو أنهم قالوا { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } واعلم أن الملائكة طلبوا بالدعاء من الله تعالى أشياء كثيرة للمؤمنين ، فالمطلوب الأول الغفران وقد سبق تفسيره في قوله { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } فإن قيل لا معنى للغفران إلا إسقاط العذاب ، وعلى هذا التقدير فلا فرق بين قوله : فاغفر لهم ، وبين قوله { وقهم عذاب الجحيم } قلنا دلالة لفظ المغفرة على إسقاط عذاب الجحيم دلالة حاصلة على الرمز والإشارة ، فلما ذكروا هذا الدعاء على سبيل الرمز والإشارة أردفوه بذكره على سبيل التصريح لأجل التأكيد والمبالغة .