مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} (3)

ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب ، فقال : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } فهذه ستة أنواع من الصفات :

الصفة الأولى : قوله { غافر الذنب } قال الجبائي : معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه ، ومراده منه أن فاعل المعصية إما أن يقال إنه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأول كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها ، وإن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلا بالتوبة ، ومذهب أصحابنا أن الله تعالى قد يعفو عن الكبيرة بعد التوبة ، وهذه الآية تدل على ذلك وبيانه من وجوه ( الأول ) أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة من الأمور الواجبة على العبد ، وجميع الأنبياء والأولياء والصالحين من أوساط الناس مشتركون في فعل الواجبات ، فلو حملنا كونه تعالى غافر الذنب على هذا المعنى لم يبق بينه وبين أقل الناس من زمرة المطيعين فرق في المعنى الموجب لهذا المدح وذلك باطل ، فثبت أنه يجب أن يكون المراد منه كونه غافر الكبائر قبل التوبة وهو المطلوب ( الثاني ) أن الغفران عبارة عن الستر ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي يكون باقيا موجودا فيستر ، والصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعلها ، فمعنى الغفر فيها غير معقول ، ولا يمكن حمل قوله { غافر الذنب } على الكبيرة بعد التوبة ، لأن معنى كونه قابلا للتوب ليس إلا ذلك ، فلو كان المراد بكونه غافر الذنب هذا المعنى لزم التكرار وإنه باطل . فثبت أن كونه غافر الذنب يفيد كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة ( الثالث ) أن قوله { غافر الذنب } مذكور في معرض المدح العظيم ، فوجب حمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح ، وذلك هو كونه غافرا للكبائر قبل التوبة ، وهو المطلوب .

الصفة الثانية : قوله تعالى { قابل التوب } وفيه بحثان :

( الأول ) في لفظ التوب قولان : الأول أنه مصدر وهو قول أبي عبيدة ، ( والثاني ) أنه جماعة التوبة وهو قول الأخفش ، قال المبرد يجوز أن يكون مصدرا يقال تاب يتوب توبا وتوبة مثل قال يقول قولا وقولة ، ويجوز أن يكون جمعا لتوبة فيكون توبة وتوب مثل ثمرة وثمر إلا أن المصدر أقرب لأن على هذا التقدير يكون تأويله أنه يقبل هذا الفعل .

الثاني : مذهب أصحابنا أن قبول التوبة من المذنب يقع على سبيل التفضل ، وليس بواجب على الله ، وقالت المعتزلة إنه واجب على الله واحتج أصحابنا بأنه تعالى ذكر كونه قابلا للتوب على سبيل المدح والثناء ، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل ، وهو القدر الذي يحصل لجميع الصالحين عند أداء الواجبات والاحتراز عن المحظورات .

الصفة الثالثة : قوله { شديد العقاب } وفيه مباحث :

البحث الأول : في هذه الآية سؤال وهو أن قوله { شديد العقاب } يصلح أن يكون نعتا للنكرة ولا يصلح أن يكون نعتا للمعرفة تقول مررت برجل شديد البطش ، ولا تقول مررت بعبد الله شديد البطش ، وقوله الله اسم علم فيكون معرفة فكيف يجوز وصفه بكونه شديد العقاب مع أنه لا يصلح إلا أن يجعل وصفا للنكرة ؟ قالوا وهذا بخلاف قولنا غافر الذنب وقابل التوب لأنه ليس المراد منهما حدوث هذين الفعلين وأنه يغفر الذنب ويقبل التوبة الآن أو غدا ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه ، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش ، وأما { شديد العقاب } فمشكل لأنه في تقدير شديد عقابه فيكون نكرة فلا يصح جعله صفة للمعرفة ، وهذا تقرير السؤال وأجيب عنه بوجوه ( الأول ) أن هذه الصفة وإن كانت نكرة إلا أنها لما ذكرت مع سائر الصفات التي هي معارف حسن ذكرها كما في قوله { وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد } ( والثاني ) قال الزجاج إن خفض { شديد العقاب } على البدل ، لأن جعل النكرة بدلا من المعرفة وبالعكس أمر جائز ، واعترضوا عليه بأن جعله وحده بدلا من الصفات فيه نبوة ظاهرة ( الثالث ) أنه لا نزاع في أن قوله { غافر الذنب وقابل التوب } يحسن جعلهما صفة ، وإنما كان كذلك لأنهما مفيدان معنى الدوام والاستمرار ، فكذلك قوله { شديد العقاب } يفيد معنى الدوام والاستمرار ، لأن صفات الله تعالى منزهة عن الحدوث والتجدد ، فكونه { شديد العقاب } معناه كونه بحيث يشتد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبدا ، وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن كذلك ، فهذا ما قيل في هذا الباب .

البحث الثاني : هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل ، لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب ، وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة ، وهو قوله { ذي الطول } ، فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقا بتينك الصفتين وملحوقا بهذه الصفة ، دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح .

البحث الثالث : لقائل أن يقول ذكر الواو في قوله { غافر الذنب وقابل التوب } ولم يذكرها في قوله { شديد العقاب } فما الفرق ؟ قلنا إنه لو لم يذكر الواو في قوله { غافر الذنب وقابل التوب } لاحتمل أن يقع في خاطر إنسان أنه لا معنى لكونه غافر الذنب إلا كونه قابل التوب ، أما لما ذكر الواو زال هذا الاحتمال ، لأن عطف الشيء على نفسه محال ، أما كونه شديد العقاب فمعلوم أنه مغاير لكونه { غافر الذنب وقابل التوب } فاستغنى به عن ذكر الواو .

الصفة الرابعة : قوله { ذي الطول } أي ذي التفضل يقال طال علينا طولا أي تفضل علينا تفضلا ، ومن كلامهم طل علي بفضلك ، ومنه قوله تعالى : { أولوا الطول منهم } ومضى تفسيره عند قوله { ومن لم يستطع منكم طولا } واعلم أنه لم يصف نفسه بكونه { شديد العقاب } لا بد وأن يكون المراد بكونه تعالى آتيا بالعقاب الشديد الذي لا يقبح منه إتيانه به ، بل لا يجوز وصفه تعالى بكونه آتيا لفعل القبيح ، وإذا ثبت هذا فنقول : ذكر بعده كونه ذا الطول وهو كونه ذا الفضل ، فيجب أن يكون معناه كونه ذا الفضل بسبب أن يترك العقاب الذي له أن يفعله لأنه ذكر كونه ذا الطول ولم يبين أنه ذو الطول فيماذا فوجب صرفه إلى كونه ذا الطول في الأمر الذي سبق ذكره ، وهو فعل العقاب الحسن دفعا للإجمال ، وهذا يدل على أنه تعالى قد يترك العقاب الذي بحسن منه تعالى فعله ، وذلك يدل على أن العفو عن أصحاب الكبائر جائز وهو المطلوب .

الصفة الخامسة : التوحيد المطلق وهو قوله { لا إله إلا هو } والمعنى أنه وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل ، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة ، أما إذا كان واحدا وليس له شريك ولا شبيه كانت الحاجة إلى الإقرار بعبوديته شديدة ، فكان الترغيب والترهيب الكاملان يحصلان بسبب هذا التوحيد .

الصفة السادسة : قوله { إليه المصير } وهذه الصفة أيضا مما يقوي الرغبة في الإقرار بعبوديته ، لأنه بتقدير أن يكون موصوفا بصفات الفضل والكرم وكان واحدا لا شريك له ، إلا أن القول بالحشر والنشر إن كان باطلا لم يكن الخوف الشديد حاصلا من عصيانه ، أما لما كان القول بالحشر والقيامة حاصلا كان الخوف أشد والحذر أكمل ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الصفات ، واحتج أهل التشبيه بلفظة إلى ، وقالوا إنها تفيد انتهاء الغاية ، والجواب عنه مذكور في مواضع كثيرة من هذا الكتاب .