مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{مَا يُجَٰدِلُ فِيٓ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَا يَغۡرُرۡكَ تَقَلُّبُهُمۡ فِي ٱلۡبِلَٰدِ} (4)

واعلم أنه تعالى لما قرر أن القرآن كتاب أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله وإخفاء أمره فقال : { ما يجادل في ءايات الله إلا الذين كفروا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أن الجدال نوعان جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل ، أما الجدال في تقرير الحق فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { وجادلهم بالتي هي أحسن } وقال حكاية عن الكفار أنهم قالوا لنوح عليه السلام { يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية حيث قال : { ما يجادل في ءايات الله إلا الذين كفروا } وقال : { ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } وقال : { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } وقال صلى الله عليه وسلم : «إن جدالا في القرآن كفر » فقوله إن جدالا على لفظ التنكير يدل على التمييز بين جدال و جدال ، و أعلم أن لفظ الجدال في الشيء مشعر بالجدال الباطل ولفظ الجدال عن الشيء مشعر بالجدال لأجل تقريره والذب عنه ، قال صلى الله عليه وسلم : «إن جدالا في القرآن كفر » وقال : «لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر » . المسألة الثانية : الجدال في آيات الله هو أن يقال مرة إنه سحر ومرة إنه شعر ومرة إنه قول الكهنة ومرة أساطير الأولين ومرة إنما يعلمه بشر ، وأشباه هذا مما كانوا يقولونه من الشبهات الباطلة فذكر تعالى أنه لا يفعل هذا إلا الذين كفروا وأعرضوا عن الحق .

قوله تعالى : { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } أي لا ينبغي أن تغتر بأني أمهلهم وأتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون للتجارات وطلب المعاش ، فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم منهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية ، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ولهم الأموال الكثيرة يتجرون فيها ويربحون .