مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَتَرَى ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةَ حَآفِّينَ مِنۡ حَوۡلِ ٱلۡعَرۡشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡۚ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡحَقِّۚ وَقِيلَ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (75)

ولما قال تعالى : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال كما أن دار ثواب المتقين المؤمنين هي الجنة ، فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش وأطرافه ، فلهذا قال : { وترى الملائكة حافين من حول العرش } أي محفين بالعرش . قال الليث : يقال حف القوم بسيدهم يحفون حفا إذا طافوا به .

إذا عرفت هذا ، فنقول بين تعالى أن دار ثوابهم هو جوانب العرش وأطرافه ثم قال : { يسبحون بحمد ربهم } وهذا مشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح ، وحينئذ رجع حاصل الكلام إلى أن أعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد في درجات التنزيه ومنازل التقديس .

ثم قال : { وقضى بينهم بالحق } والمعنى أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة ، فلكل واحد منهم في درجات المعرفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه ، وهو المراد من قوله { وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } أي الملائكة لما قضي بينهم بالحق قالوا { الحمد لله رب العالمين } على قضائه بيننا بالحق ، وهاهنا دقيقة أعلى مما سبق وهي أنه سبحانه لما قضى بينهم بالحق ، فهم ما حمدوه لأجل ذلك القضاء ، بل حمدوه بصفته الواجبة وهي كونه ربا للعالمين ، فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم وإنما حمد الإنعام ، وأما من حمد المنعم لا لأنه وصل إليه النعمة فهاهنا قد وصل إلى لجة بحر التوحيد ، هذا إذا قلنا إن قوله { وترى الملائكة حافين من حول العرش } شرح أحوال الملائكة في الثواب ، أما إذا قلنا إنه من بقية شرح ثواب المؤمنين ، فتقريره أن يقال إن المتقين لما قالوا { الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } فقد ظهر منهم أنهم في الجنة اشتغلوا بحمد الله وبذكره بالمدح والثناء ، فبين تعالى أنه كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد ، فكذلك حرفة الملائكة الذين هم حافون حول العرش الاشتغال بالتحميد والتسبيح ، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة ، وحينئذ يظهر منه أن المؤمنين المتقين وأن الملائكة المقربين يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتسبيحه ، فكان ذلك سببا لمزيد التذاذهم بذلك التسبيح والتحميد .

ثم قال : { وقضى بينهم بالحق } أي بين البشر ، ثم قال : { وقيل الحمد لله رب العالمين } والمعنى أنهم يقدمون التسبيح ، والمراد منه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالإلهية .

وأما قوله تعالى : { وقيل الحمد لله رب العالمين } فالمراد وصفه بصفات الإلهية ، فالتسبيح عبارة عن الاعتراف بتنزيهه عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال ، وقوله { وقيل الحمد لله رب العالمين } عبارة عن الإقرار بكونه موصوفا بصفات الإلهية وهي صفات الإكرام ، ومجموعهما هو المذكور في قوله { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } وهو الذي كانت الملائكة يذكرونه قبل خلق العالم وهو قولهم { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } وفي قوله { وقيل الحمد لله رب العالمين } دقيقة أخرى وهي أنه لم يبين أن ذلك القائل من هو ، والمقصود من هذا الإبهام التنبيه ، على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة الجلال والكبرياء ليس إلا أن يقولوا { الحمد لله رب العالمين } وتأكد هذا بقوله تعالى في صفة أهل الجنة { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } .

قال المصنف رحمه الله تعالى : ثم تفسير هذه السورة في ليلة الثلاثاء آخر ذي القعدة من سنة ثلاث وستمائة يقول مصنف هذا الكتاب الملائكة المقربون عجزوا عن إحصاء ثنائك ، فمن أنا ، والأنبياء المرسلون اعترفوا بالعجز والقصور ، فمن أنا ، وليس معي إلا أن أقول أنت أنت وأنا أنا ، فمنك الرحمة والفضل والجود والإحسان ، ومني العجز والذلة والخيبة والخسران ، يا رحمن يا ديان يا حنان يا منان أفض على سجال الرحمة والغفران برحمتك يا أرحم الراحمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين ، وسلم تسليما كثيرا .