مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٞ فَقَالَ لَهَا وَلِلۡأَرۡضِ ٱئۡتِيَا طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا قَالَتَآ أَتَيۡنَا طَآئِعِينَ} (11)

ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السموات فقال : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } وفيه مباحث :

البحث الأول : قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه ، ومنه قوله تعالى : { فاستقيموا إليه } والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها ، من غير صرف يصرفه ذلك .

البحث الثاني : ذكر صاحب «الأثر » أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السموات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات .

واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن ، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا ، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة ، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة ، وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية ، بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة ، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلما ، وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالسا في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئا ، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين ، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور ، فالله سبحانه وتعالى لما خلق الأجزاء التي لا تتجزأ ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء كانت مظلمة عديمة النور ، ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا ، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة ، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السموات والشمس والقمر كانت مظلمة ، فصح تسميتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور ، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان ، والله أعلم بحقيقة الحال .

البحث الثالث : قوله { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض ، وقوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض ، واختلف العلماء في هذه المسألة ، و( الجواب المشهور ) أن يقال إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولا ثم خلق بعدها السماء ، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ، وبهذا الطريق يزول التناقض ، واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه ( الأول ) أنه تعالى بين أنه خلق الأرض في يومين ، ثم إنه في اليوم الثالث { جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها } وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة ، وقوله تعالى : { وبارك فيها } مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها ، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة ، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك { ثم استوى إلى السماء } فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة ، وحينئذ يعود السؤال المذكور ( الثاني ) أنه قد دلت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة ، فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضا فهي منذ خلقت كانت مدحوة ، وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة ، وذلك باطل ( الثالث ) أن الأرض جسم في غاية العظم ، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوا ، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة ، ثم صارت مدحوة قول باطل ، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس ، فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع ، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال ، وإن كان المراد منه أنه خلق أولا أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أجزائها ، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولا ، فهذا يكون اعترافا بأن تخليق الأرض وقع متأخرا عن تخليق السماء ( الرابع ) أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام ، فإذا حصل دحو الأرض من بعد ذلك فقد حصل هذا الدحو في زمان آخر بعد الأيام الستة ، فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل ( الخامس ) أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية { ثم استوى إلى السماء فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } كناية عن إيجاد السماء والأرض ، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله { ائتيا طوعا أو كرها } يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل .

فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور ، ونقل الواحدي في «البسيط » عن مقاتل أنه قال : خلق الله السموات قبل الأرض وتأويل قوله { ثم استوى إلى السماء } ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان ، وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان كما قال تعالى : { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } معناه إن يكن سرق ، وقال تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } والمعنى فكان قد جاءها ، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف ، لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء ، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة { ثم } تقتضي التأخير ، وكلمة «كان » تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد التناقض ، وذلك دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله { ائتيا طوعا أو كرها } إنما حصل قبل وجودهما ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله { ائتيا } على الأمر والتكليف ، فوجب حمله على ما ذكرناه ، بقي على لفظ الآية سؤالات .

السؤال الأول : ما الفائدة في قوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } ؟ الجواب : المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير : ائتيا شئتما ذلك أو أبيتما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ ، ولتفعلنه طوعا أو كرها ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين { قالتا أتينا } على الطوع لا على الكره ، وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكره ، فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه ( أحدها ) أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف ، تشبه حيوانا مطيعا لله تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال ، تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة ( وثانيها ) أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة ، قال تعالى : { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك ( وثالثها ) السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور ، قالوا إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة ، وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة ، ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي ، وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات ، فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع وعن تكون الأرض بالكره ، وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبدا بما يوجب الكره والكرب والقهر والقسر .

السؤال الثاني : ما المراد من قوله { ائتيا } ومن قوله { أتينا } ؟ الجواب : المراد ائتيا إلى الوجود والحصول وهو كقوله { كن فيكون } وقيل المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، أي بأرض مدحوة قرارا ومهادا وأي بسماء مقببة سقفا لهم ، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد ، كما تقول أتى عمله مرضيا وجاء مقبولا ، ويجوز أيضا أن يكون المعنى لتأتي كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قرارا للسماء وكون السماء سقفا للأرض .

السؤال الثالث : هلا قيل طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى ، لأنهما سموات وأرضون ؟ الجواب : لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله { ساجدين } ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير ، فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة ، إلا أن هذا القول باطل ، لإجماع المتكلمين على فساده .