ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السموات فقال : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } وفيه مباحث :
البحث الأول : قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء } من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج ، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه ، ومنه قوله تعالى : { فاستقيموا إليه } والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها ، من غير صرف يصرفه ذلك .
البحث الثاني : ذكر صاحب «الأثر » أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السموات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات .
واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن ، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا ، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة ، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة ، وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية ، بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة ، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلما ، وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالسا في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئا ، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين ، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور ، فالله سبحانه وتعالى لما خلق الأجزاء التي لا تتجزأ ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء كانت مظلمة عديمة النور ، ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا ، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة ، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السموات والشمس والقمر كانت مظلمة ، فصح تسميتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور ، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان ، والله أعلم بحقيقة الحال .
البحث الثالث : قوله { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض ، وقوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض ، واختلف العلماء في هذه المسألة ، و( الجواب المشهور ) أن يقال إنه تعالى خلق الأرض في يومين أولا ثم خلق بعدها السماء ، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ، وبهذا الطريق يزول التناقض ، واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه ( الأول ) أنه تعالى بين أنه خلق الأرض في يومين ، ثم إنه في اليوم الثالث { جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها } وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة ، وقوله تعالى : { وبارك فيها } مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها ، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة ، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك { ثم استوى إلى السماء } فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة ، وحينئذ يعود السؤال المذكور ( الثاني ) أنه قد دلت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة ، فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضا فهي منذ خلقت كانت مدحوة ، وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة ، وذلك باطل ( الثالث ) أن الأرض جسم في غاية العظم ، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوا ، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة ، ثم صارت مدحوة قول باطل ، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس ، فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع ، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال ، وإن كان المراد منه أنه خلق أولا أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أجزائها ، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولا ، فهذا يكون اعترافا بأن تخليق الأرض وقع متأخرا عن تخليق السماء ( الرابع ) أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام ، فإذا حصل دحو الأرض من بعد ذلك فقد حصل هذا الدحو في زمان آخر بعد الأيام الستة ، فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل ( الخامس ) أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية { ثم استوى إلى السماء فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } كناية عن إيجاد السماء والأرض ، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله { ائتيا طوعا أو كرها } يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل .
فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور ، ونقل الواحدي في «البسيط » عن مقاتل أنه قال : خلق الله السموات قبل الأرض وتأويل قوله { ثم استوى إلى السماء } ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان ، وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان كما قال تعالى : { قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } معناه إن يكن سرق ، وقال تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } والمعنى فكان قد جاءها ، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف ، لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء ، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة { ثم } تقتضي التأخير ، وكلمة «كان » تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد التناقض ، وذلك دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله { ائتيا طوعا أو كرها } إنما حصل قبل وجودهما ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله { ائتيا } على الأمر والتكليف ، فوجب حمله على ما ذكرناه ، بقي على لفظ الآية سؤالات .
السؤال الأول : ما الفائدة في قوله تعالى : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } ؟ الجواب : المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير : ائتيا شئتما ذلك أو أبيتما ، كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ ، ولتفعلنه طوعا أو كرها ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين { قالتا أتينا } على الطوع لا على الكره ، وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكره ، فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه ( أحدها ) أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف ، تشبه حيوانا مطيعا لله تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال ، تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة ( وثانيها ) أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة ، قال تعالى : { يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون } وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك ( وثالثها ) السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور ، قالوا إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة ، وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة ، ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي ، وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات ، فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع وعن تكون الأرض بالكره ، وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبدا بما يوجب الكره والكرب والقهر والقسر .
السؤال الثاني : ما المراد من قوله { ائتيا } ومن قوله { أتينا } ؟ الجواب : المراد ائتيا إلى الوجود والحصول وهو كقوله { كن فيكون } وقيل المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، أي بأرض مدحوة قرارا ومهادا وأي بسماء مقببة سقفا لهم ، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد ، كما تقول أتى عمله مرضيا وجاء مقبولا ، ويجوز أيضا أن يكون المعنى لتأتي كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قرارا للسماء وكون السماء سقفا للأرض .
السؤال الثالث : هلا قيل طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى ، لأنهما سموات وأرضون ؟ الجواب : لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله { ساجدين } ومنهم من استدل به على كون السموات أحياء وقال الأرض في جوف السموات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير ، فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة ، إلا أن هذا القول باطل ، لإجماع المتكلمين على فساده .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.