مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (3)

( وثالثها ) كونه كتابا وقد بينا أن هذا الاسم مشتق من الجمع وإنما سمي كتابا لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين ( ورابعها ) قوله { فصلت ءاياته } والمراد أنه فرقت آياته وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها في وصف ذات الله تعالى وشرح صفات التنزيه والتقديس وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته وعجائب أحوال خلقه السموات والأرض والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان ، وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلوب ونحو الجوارح ، وبعضها في الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أهل الجنة ودرجات أهل النار ، وبعضها في المواعظ والنصائح وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس ، وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين ، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن ( وخامسها ) قوله { قرءانا } والوجه في تسميته قرآنا قد سبق وقوله تعالى : { قرءانا } نصب على الاختصاص والمدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت وكيت ، وقيل هو نصب على الحال وسادسها : قوله { عربيا } والمعنى أن هذا القرآن إنما نزل بلغة العرب وتأكد هذا بقوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } ( وسابعها ) قوله تعالى : { لقوم يعلمون } والمعنى إنا جعلناه عربيا لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب فجعلناه بلغة العرب ليفهموا منه المراد ، فإن قيل قوله { لقوم يعلمون } متعلق بماذا ؟ قلنا يجوز أن يتعلق بقوله { تنزيل } أو بقوله { فصلت } أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لأجلهم ، والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده ، أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب ، لئلا يفرق بين الصلات والصفات ( وثامنها وتاسعها ) قوله { بشيرا ونذيرا } يعني بشيرا للمطيعين بالثواب ونذيرا للمجرمين بالعقاب ، والحق أن القرآن بشارة ونذارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملا في هذه الصفة ، كما يقال شعر شاعر وكلام قائل .

الصفة العاشرة : كونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه ، فهذه هي الصفات العشرة التي وصف الله القرآن بها ، ويتفرع عليها مسائل :

المسألة الأولى : القائلون بخلق القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه ( الأول ) أنه وصف القرآن بكونه تنزيلا ومنزلا والمنزل والتنزيل مشعر بالتصيير من حال ، فوجب أن يكون مخلوقا ( الثاني ) أن التنزيل مصدر والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين ( الثالث ) المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو المفعول المطلق أو المكتوب الذي هو المفعول ( الرابع ) أن قوله { فصلت } يدل على أن متصرفا يتصرف فيه بالتفصيل والتمييز ، وذلك لا يليق بالقديم ( الخامس ) أنه إنما سمي قرآنا لأنه قرن بعض أجزائه بالبعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل ( السادس ) وصفه بكونه عربيا ، وإنما صحت هذه النسبة لأجل أن هذه الألفاظ إنما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم ، وما جعل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بد وأن يكون محدثا ومخلوقا ( الجواب ) أن كل هذه الوجوه التي ذكرتموها عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات ، وهي عندنا محدثة مخلوقة ، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر سوى هذه الألفاظ ، والله أعلم .

المسألة الثانية : ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية ، فأما حملها على معان أخر لا بهذا الطريق فهذا باطل قطعا ، وذلك مثل الوجوه التي يذكرها أهل الباطن ، مثل أنهم تارة يحملون الحروف على حساب الجمل وتارة يحملون كل حرف على شيء آخر ، وللصوفية طرق كثيرة في الباب ويسمونها علم المكاشفة والذي يدلل على فساد تلك الوجوه بأسرها قوله تعالى : { قرءانا عربيا } وإنما سماه عربيا لكونه دالا على هذه المعاني المخصوصة بوضع العرب وباصطلاحاتهم ، وذلك يدل على أن دلالة هذه الألفاظ لم تحصل إلا على تلك المعاني المخصوصة ، وأن ما سواه فهو باطل .

المسألة الثالثة : ذهب قوم إلى أنه حصل في القرآن من سائر اللغات كقوله { إستبرق } و{ سجيل } فإنهما فارسيان ، وقوله { مشكاة } فإنها من لغة الحبشة وقوله { قسطاس } فإنه من لغة الروم والذي يدل على فساد هذا المذهب قوله { قرءانا عربيا } ، وقوله { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } .

المسألة الرابعة : قالت المعتزلة لفظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة والصوم والحج ألفاظ شرعية لا لغوية ، والمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية الأصلية إلى مسميات أخرى ، وعندنا أن هذا باطل ، وليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ عن مسمياتها إلا من وجه واحد ، وهو أنه خصص هذه الأسماء بنوع واحد من أنواع مسمياتها مثلا ، الإيمان عبارة عن التصديق فخصصه الشرع بنوع معين من التصديق ، والصلاة عبارة عن الدعاء فخصصه الشرع بنوع معين من الدعاء ، كذا القول في البواقي ودليلنا على صحة مذهبنا قوله تعالى : { قرءانا عربيا } ، وقوله { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } .

المسألة الخامسة : إنما وصف الله القرآن بكونه { عربيا } في معرض المدح والتعظيم وهذا المطلوب لا يتم إلا إذا ثبت أن لغة العرب أفضل اللغات .

واعلم أن هذا المقصود إنما يتم إذا ضبطنا أقسام فضائل اللغات بضابط معلوم ، ثم بينا أن تلك الأقسام حاصلة فيه لا في غيره ، فنقول لا شك أن الكلام مركب من الكلمات المفردة ، وهي مركبة من الحروف ، فالكلمة لها مادة وهي الحروف ، ولها صورة وهي تلك الهيئة المعينة الحاصلة عند التركيب . فهذه الفضيلة إنما تحصل إما بحسب مادتها أو بحسب صورتها ، أما التي بحسب مادتها فهي آحاد الحروف ، واعلم أن الحروف على قسمين بعضها بينة المخارج ظاهرة المقاطع وبعضها خفية المخارج مشتبهة المقاطع ، وحروف العرب بأسرها ظاهرة المخارج بينة المقاطع ، ولا يشتبه شيء منها بالآخر . وأما الحروف المستعملة في سائر اللغات فليست كذلك بل قد يحصل فيها حرف يشتبه بعضها بالبعض ، وذلك يخل بكمال الفصاحة ، وأيضا الحركات المستعملة في سائر لغة العرب حركات ظاهرة جلية وهي النصب والرفع والجر ، وكل واحد من هذه الثلاثة فإنه يمتاز عن غيره امتيازا ظاهرا جليا ، وأما الإشمام والروم فيقل حصولهما في لغات العرب ، وذلك أيضا من جنس ما يوجب الفصاحة ، وأما الكلمات الحاصلة بحسب التركيب فهي أنواع :

( أحدها ) أن الحروف على قسمين متقاربة المخرج ومتباعدة المخرج ، وأيضا الحروف على قسمين منها صلبة ومنها رخوة ، فيحصل من هذا التقسيم أقسام أربعة الصلبة المتقاربة ، والرخوة المتقاربة ، والصلبة المتباعدة ، والرخوة المتباعدة ، فإذا توالى في الكلمة حرفان صلبان متقاربان صعب اللفظ بها ، لأن بسبب تقارب المخرج يصير التلفظ بها جاريا مجرى ما إذا كان الإنسان مقيدا ثم يمشي ، وبسبب صلابة تلك الحروف تتوارد الأعمال الشاقة القوية على الموضع الواحد من المخرج ، وتوالي الأعمال الشاقة يوجب الضعف والإعياء ، ومثل هذا التركيب في اللغة العربية قليل ( وثانيها ) أن جنس بعض الحروف ألذ وأطيب في السمع ، وكل كلمة يحصل فيها حرف من هذا الجنس كان سماعها أطيب ( وثالثها ) الوزن فنقول : الكلمة إما أن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ، وأعدلها هو الثلاثي لأن الصوت إنما يتولد بسبب الحركة ، والحركة لا بد لها من مبدأ ووسط ومنتهى ، فهذه ثلاث مراتب ، فالكلمة لا بد وأن يحصل فيها هذه المراتب الثلاثة حتى تكون تامة ، أما الثنائية فهي ناقصة وأما الرباعية فهي زائدة ، والغائب في كلام العرب الثلاثيات ، فثبت بما ذكرنا ضبط فضائل اللغات ، والاستقراء يدل على أن لغة العرب موصوفة بها ، وأما سائر اللغات فليست كذلك ، والله أعلم .

المسألة السادسة : قوله { لقوم يعلمون } يعني إنما جعلناه { عربيا } لأجل أن يعلموا المراد منه ، والقائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح والحكم ، تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها تدل على أنه إنما جعله { عربيا } لهذه الحكمة ، فهذا يدل على أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه جائز .

المسألة السابعة : قال قوم القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم وفيه ما لا يعلم ، وقال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم ، والدليل عليه قوله تعالى : { قرءانا عربيا لقوم يعلمون } يعني إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما ، والقوم بأنه غير معلوم يقدح فيه .