مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا} (10)

قوله تعالى : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا } قال مقاتل : إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فرجعوا فيه إلى نوح ، فقال نوح : استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه .

واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات ، ويدل عليه وجوه ( أحدها ) أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى : { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، أن دعوا للرحمن ولدا } فلما كان الكفر سببا لخراب العالم ، وجب أن يكون الإيمان سببا لعمارة العالم ( وثانيها ) الآيات منها هذه الآية ومنها قوله : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات ، ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ، وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ، وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك } ( وثالثها ) أنه تعالى قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فإذا اشتغلوا بتحصيل المقصود حصل ما يحتاج إليه في الدنيا على سبيل التبعية ( ورابعها ) أن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار ، فقيل له : ما رأيناك استسقيت ، فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء . المجدح ثلاثة كواكب مخصوصة ، ونوءه يكون عزيزا شبه عمر الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ ، وعن بكر بن عبد الله : أن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا ، وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا ، وعن الحسن : أن رجلا شكا إليه الجدب ، فقال : استغفر الله ، وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له بعض القوم : أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فتلا له الآية ، وهاهنا سؤالات :

الأول : أن نوحا عليه السلام أمر الكفار قبل هذه الآية بالعبادة والتقوى والطاعة ، فأي فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار ؟ ( الجواب ) أنه لما أمرهم بالعبادة قالوا له : إن كان الدين القديم الذي كنا عليه حقا فلم تأمرنا بتركه ، وإن كان باطلا فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه ، فقال نوح عليه السلام : إنكم وإن كنتم عصيتموه ولكن استغفروه من تلك الذنوب ، فإنه سبحانه كان غفارا .

السؤال الثاني : لم قال : { إنه كان غفارا } ولم يقل : إنه غفار ؟ قلنا المراد : إنه كان غفارا في حق كل من استغفروه كأنه يقول : لا تظنوا أن غفاريته إنما حدثت الآن ، بل هو أبدا هكذا كان ، فكأن هذا هو حرفته وصنعته .