مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوٓاْ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡاْ ثِيَابَهُمۡ وَأَصَرُّواْ وَٱسۡتَكۡبَرُواْ ٱسۡتِكۡبَارٗا} (7)

ثم قال تعالى : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } .

اعلم أن نوحا عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم ، فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة ، وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة ، ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال : { يغفر لكم من ذنوبكم } فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء :

أولها : قوله : { جعلوا أصابعهم في آذانهم } والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة .

وثانيها : قوله : { واستغشوا ثيابهم } أي تغطوا بها ، إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه ، ولا أن يروا وجهه . وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا ، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم ، ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك ، صار المانع من السماع أقوى .

وثالثها : قوله : { وأصروا } والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم ، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق .

ورابعها : قوله : { واستكبروا استكبارا } أي عظيما بالغا إلى النهاية القصوى .