مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَغۡفِرۡ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمۡ وَيُؤَخِّرۡكُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمًّىۚ إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُۚ لَوۡ كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (4)

ثم إنه تعالى لما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها بشيئين ( أحدهما ) أن يزيل مضار الآخرة عنهم ، وهو قوله : { يغفر لكم من ذنوبكم } . ( الثاني ) يزيل عنهم مضار الدنيا بقدر الإمكان ، وذلك بأن يؤخر أجلهم إلى أقصى الإمكان . وهاهنا سؤالات :

السؤال الأول : ما فائدة { من } في قوله : { يغفر لكم من ذنوبكم } ؟ ( والجواب ) من وجوه ( أحدها ) أنها صلة زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم والثاني : أن غفران الذنب هو أن لا يؤاخذ به ، فلو قال : يغفر لكم ذنوبكم ، لكان معناه أن لا يؤاخذكم بمجموع ذنوبكم ، وعدم المؤاخذة بالمجموع لا يوجب عدم المؤاخذة بكل واحد من آحاد المجموع ، فله أن يقول : لا أطالبك بمجموع ذنوبك ، ولكني أطالبك بهذا الذنب الواحد فقط ، أما لما قال : { يغفر لكم من ذنوبكم } كان تقديره يغفر كل ما كان من ذنوبكم ، وهذا يقتضي عدم المؤاخذة على مجموع الذنوب وعدم المؤاخذة أيضا على كل فرد من أفراد المجموع ( الثالث ) أن قوله : { يغفر لكم من ذنوبكم } هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حتى لأن من آمن فإنه يصير ما تقدم من ذنوبه على إيمانه مغفورا ، أما ما تأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفورا ، فثبت أنه لا بد هاهنا من حرف التبعيض .

السؤال الثاني : كيف قال : { ويؤخركم } مع إخباره بامتناع تأخير الأجل ، وهل هذا إلا تناقض ؟ ( الجواب ) قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة ، فقيل لهم : آمنوا ( يؤخركم إلى أجل مسمى ) أي إلى وقت سماه الله وجعله غاية الطول في العمر ، وهو تمام الألف ، ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول ، لا بد من الموت .

السؤال الثالث : ما الفائدة في قوله { لو كنتم تعلمون } ( الجواب ) الغرض الزجر عن حب الدنيا ، وعن التهالك عليها والإعراض عن الدين بسبب حبها ، يعني أن غلوهم في حب الدنيا وطلب لذاتها بلغ إلى حيث يدل على أنهم شاكون في الموت .