{ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاولى } أي ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي بمبعوثين بعدها ، وتوصيفها بالأولى ليس لقصد مقابلة الثانية كما في قولك : حج زيد الحجة الأولى ، ومات .
قال الأسنوي في «التمهيد » : الأول : في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون ، كما تقول : هذا أول ما اكتسبته فقد تكتسب بعده شيئاً وقد لا تكتسب كذا ذكره جماعة منهم الواحدي في تفسيره والزجاج .
ومن فروع المسألة ما لو قال : إن كان أول ولد تلدينه ذكراً فأنت طالق تطلق إذا ولدته ، وإن لم تلد غيره بالاتفاق ، قال أبو علي : اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولاً أن يكون بعده آخر ، وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه غيره اه ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم : إن الأول يضايف الآخر والثاني ويقتضي وجوده بلا شبهة ، والمثال إن صح فإنما هو فيمن نوى تعدد الحج فاخترمته المنية فلحجة ثان باعتبار العزم من قصور الإطلاع وأنه لا حاجة إلى أن يقال : إنها أولى بالنسبة إلى ما بعدها من حياة الآخرة بل هو في حد ذاته غير مقبول لما قال ابن المنير من أن الأولى إنما يقابلها أخرى تشاركها في أخص معانيها ، فكما لا يصح أو لا يحسن أن يقال : جاءني رجل وامرأة أخرى لا يقال الموتة الأولى بالنسبة لحياة الآخرة ، وقيل : إنه قيل لهم أنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة ، وذلك قوله عز وجل { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] فقالوا : { إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاولى } يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة ، إلا الموتة الأولى دون الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة ، وهذا ما ارتضاه جار الله وأراد أن النفي والإثبات لما كان لرد المنكر المصر إلى الصواب كان منزلاً على إنكارهم ، لاسيما والتعريف في الأولى تعريف عهد ، وقوله تعالى : { الموتة الاولى } تفسير للمبهم وهي على نحو هي العرب تقول كذا فيتطابقان والمعهود الموتة التي تعقبتها الحياة الدنيوية ، ولذلك استشهد بقوله تعالى : { وَكُنتُمْ أمواتا } الخ فليس اعتبار الوصف عدولاً عن الظاهر من غير حاجة كما قال ابن المنير . وقوله في الاعتراض أيضاً : إن الموت السابق على الحياة الدنيوية لا يعبر عنه بالموتة لأن { فِيهَا } لمكان بناء المرة إشعاراً بالتجدد والموت السابق مستصحب لم تتقدمه حياة مدفوع كما قال «صاحب الكشف » ، ثم أنه لا يلزم من تفسير الموتة الأولى بما بعد الحياة في قوله تعالى :
{ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى } [ الدخان : 56 ] تفسيرها بذلك هنا لأن إيقاع الذوق عليها هناك قرينة أنها التي بعد الحياة الدنيا لأن ما قبل الحياة غير مذوق ، ومع هذا كله الإنصاف إن حمل الموتة الأولى هنا أيضاً على التي بعد الحياة الدنيا أظهر من حملها على ما قبل الحياة من العدم بل هي المتبادرة إلى الفهم عند الإطلاق المعروفة بينهم ، وأمر الوصف بالأولى على ما سمعت أولاً .
وقيل : إنهم وعدوا بعد هذه الموتة موتة القبر وحياة البعث فقوله تعالى عنهم : { إِنْ هِي إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاولى } رد للموتة الثانية وفي قوله سبحانه : { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } نفي لحياة القبر ضمنا إذ لو كانت بدون الموتة الثانية لثبت النشر ضرورة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن هي إلا موتتنا الأولى} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم:إنكم تبعثون من بعد الموت، فكذبوه، فقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا.
{وما نحن بمنشرين}، يعني بمبعوثين من بعد الموت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ {لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان: 34] الَّتِي نَمُوتُهَا، وَهِيَ الْمَوْتَةُ الْأُولَى {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدخان: 35] بَعْدَ مَمَاتِنَا، وَلَا بِمَبْعُوثِينَ تَكْذِيبًا مِنْهُمْ بِالْبَعْثِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إنّ الذي يحمل هؤلاء على الإنكار والكفر بك وترك الإيمان بك وإنكارهم البعث والإحياء بعد الموت كقوله تعالى: {والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به} [الأنعام: 92] فأما من لم يؤمن بالآخرة لا يؤمن به، والله أعلم.
وأصله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث لدعاء الخلق إلى الزهد في هذه الدنيا والرغبة في الآخرة والقطع عن جميع شهواتهم ومُناهم في الدنيا، وتأخير ذلك إلى الآخرة. فمن آمن بالآخرة سهُل عليه ترك ذلك كلّه، وهان عليه قطع نفسه عن قضاء ذلك كلّه، ومن أنكر الآخرة وجحدها اشتدّ ذلك عليه، وصعُب حمله ذلك على إنكارها والجحود لها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: كان الكلام واقعاً في الحياة الثانية لا في الموت، فهلا قيل: إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين؟ وما معنى قوله: {إِنْ هِي إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى}؟ وما معنى ذكر الأولى؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الأولى؟ قلت: معناه والله الموفق للصواب -: أنه قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدّمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عزّ وجل: {وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] فقالوا:"إن هي إلا موتتنا الأولى" يريدون: ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة، فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله: {إِنْ هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} في المعنى.
يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم: إذا بعثهم...
{إن هي إلا حياتنا الدنيا} يمكن أن يذكر فيه وجه آخر، فيقال قوله {إن هي إلا موتتنا الأولى} يعني أنه لا يأتينا شيء من الأحوال إلا الموتة الأولى، وهذا الكلام يدل على أنهم لا تأتيهم الحياة الثانية البتة، ثم صرحوا بهذا المرموز فقالوا {وما نحن بمنشرين}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان قد تقدم قوله تعالى {يحيي ويميت} وهم يعلمون أن المراد به أنه يتكرر منه الإحياء للشخص الواحد، وكان تعالى قد قال ولا يخاطبهم إلا بما يعرفونه {وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون} [البقرة: 28] أي بالانتشار بعد الحياة وقال {أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين} [غافر: 11] قالوا: ما {هي إلا موتتنا} على حذف مضاف أي ما الحياة إلا حياة موتتنا.
{الأولى} أي التي كانت قبل نفخ الروح -كما سيأتي في الجاثية {إن هي إلا حياتنا الدنيا} و عبروا عنها بالموتة إشارة إلى أن الحياة في جنب الموت المؤبد على زعمهم أمر متلاش لا نسبه لها منه.
وساق سبحانه كلامهم على هذا الوجه إشارة إلى أن الأمور إذا قيس غائبها على شاهدها، كان الإحياء بعد الموتة الثانية أولى؛ لكونه بعد حياة من الإحياء بعد الموتة الأولى، فحط الأمر على أن الابتداء كان من موت لم يتقدمه حياة، والقرار يكون على حياة لا يعقبها موت.
ولما كان المعنى: وليس وراءها حياة، أكدوه بما يفهمه تصريحاً فقالوا برد ما أثبته الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {وما نحن} وأكدوا النفي فقالوا: {بمنشرين} أي من منشر ما بالبعث بحيث نصير ذوي حركة اختيارية ننتشر بها بعد الموت، يقال: نشره وأنشره- إذا أحياه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ضمير {هي} ضمير الشأن ويقال له: ضمير القصة؛ لأنه يستعمل بصيغة المؤنث بتأويل القصة، أي لا قصة في هذا الغرض إلا الموتة المعروفة فهي موتة دائمة لا نشور لنا بعدها. وهذا كلام من كلماتهم في إنكار البعث فإن لهم كلمات في ذلك، فتارة ينفون أن تكون بعد الموت حياة كما حكى عنهم في آيات أخرى مثل قوله تعالى {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا} [الأنعام: 29]، وتارة ينفون أن يطرأ عليهم بعد الموتة المعروفة شيء غيرها، يعنون بذلك شيئاً ضد الموتة وهو الحياة بعد الموتة. فلهم في نَفْي الحياة بعد الموت أفانين من أقوال الجحود، وهذا القصر قصر حقيقي في اعتقادهم؛ لأنهم لا يؤمنون باعتراء أحوال لهم بعد الموت.
وكلمة {هؤلاء} حيثما ذكر في القرآن غير مسبوق بما يصلح أن يشار إليه: مراد به المشركون من أهل مكة كما استنبطناه، وقدمنا الكلام عليه عند قوله تعالى: {فإن يكفر بها هؤلاء} في سورة الأنعام (89).
ووصف {الأولى} مراد به السابقة مثل قوله: {وأنه أهلك عاداً الأولى} [النجم: 50] ونظيرها قوله تعالى: {أفما نحن بميتين إلاّ موتَتَنا الأولى وما نحن بمعذبين} [الصافات: 58، 59] أعقبوا قصر ما ينتابهم بعد الحياة على الموتة التي يموتونها، بقوله: {وما نحن بمنشرين} تصريحاً بمفهوم القصر.
وجيء به معطوفاً للاهتمام به لأنه غرض مقصود مع إفادته تأكيد القصر.