{ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ } استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشبة وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل سبحانه وتعالى : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ } الخ ويرجع هذا في الآخرة إلى إنكار البعث كما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكملة كيف منصوبة بما بعدها على أنها حال من مرفوع خلقت كما في قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [ البقرة : 28 ] معلقة لفعل النظر والجملة بدل اشتمال من الإبل . وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم : عرفت زيداً أبو من هو على أصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى علي كيف بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها على فحكى عنهم أنهم قالوا : انظر إلى كيف يصنع كما حكي عنهم أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين وذكر أبو حيان في «البحر » والتذكرة وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته وقيل كيف بدل من الإبل وتعقبه في «المغني » بما في بعضه نظر وجوز في «مجمع البيان » كونها في موضع نصب على المصدر وهو كما ترى والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه فقالوا أبل وتابل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا ما آبل زيداً ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسماً جاء على فعل بكسر الفاء والعين غير ابل أي أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيآتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى إن ظمأها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام بين الوردين وربما يجوز ذلك وتسمى حينئذٍ الحوازي بالحاء المهملة والزاي واكتفائها بالسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وفي تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعاً ولهم على أحوالها أتم وقوف وعن الحسن أنها خصت بالذكر لأنها تأكل النوى وألقت وتخرج اللبن وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من غير مشقة في ترييضه ولا يحلب دره وقال أبو العباس المبرد الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي إرسالاً كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل وهي في هيآتها أحياناً تشبه الإبل يعني أن إرادته منها هنا على طريق التشبيه والمجاز وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك إلا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها قال الإمام التناسب فيها أن الكلام مع العرب وهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل وإذا نظر لما فوقه رأى السماء وإذا نظر يميناً وشمالاً رأى الجبال وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الاعتبار وقال عصام الدين : إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن مالهم النفيس الإبل ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال وما ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف الثمام وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول تلك الآية كان ذكرها ألطف وألطف وقرأ الأصمعي عن أبي عمرو إلى الإبل بسكون الباء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إبل بتشديد اللام ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا : إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أفلا ينظر هؤلاء المنكرون قُدرة الله على هذه الأمور ، إلى الإبل كيف خلَقها ، وسخرها لهم وذَلّلها ، وجعلها تحمل حملها باركة ، ثم تنهض به ، والذي خلق ذلك غير عزيز عليه أن يخلق ما وصف من هذه الأمور في الجنة والنار ، يقول جلّ ثناؤه : أفلا ينظرون إلى الإبل ، فيعتبرون بها ، ويعلمون أن القُدرة التي قدَر بها على خلقها ، لن يُعجزه خلق ما شابهها ....
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فخص الإبل بالذكر من بين جملة الدواب ، وخص السماء والجبال والأرض بالذكر ، وتخصيصها يكون لأحد وجهين :
أحدهما : أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة ؛ عليها كانوا يسافرون ، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه ، وهي أيضا ، أعني مكة ، منشؤهم بين الجبال ، فكانت لا تفارقهم الجبال ، وكانت السماء من فوقهم ، والأرض من تحتهم ، فخصت هذه الأشياء بالذكر ليعتبروا بها ، ويتدبروا .
الثاني : أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل لأن منافع الدواب أن ينتفع بظهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها ، فكل ذلك في الإبل ، فصارت في الإبل كالأنعام للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها ،...
ثم قوله تعالى : { أفلا ينظرون } يحتمل وجهين :
أحدهما : على الأمر ، أي فلينظروا .
والثاني : أن يكون على السؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم ، فنزلت هذه الآية : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } إلى آخر الآيات ، أي لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها نزع عنهم الإشكال ، ووضح لهم ما اشتبه عليهم . ... فإن قيل : كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء ، وهم لو نظروا إلى آخر الأبد ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء لم يهتدوا إلى ذلك الوجه ؟ فجواب أنهم لو أدركوا ذلك الوجه ، وفهموه ، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال ، إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي تهتدي إليها . فارتفاع الإدراك وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل ، ويزيل عنهم الشبه ، إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم وأنه خلافهم من جميع الوجوه ، والله الموفق . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ أفلا ينظرون } أي المنكرون من هذه الأمة لقدرته سبحانه وتعالى على الجنة وما ذكر فيها والنار وما ذكر فيها - نظر اعتبار . ولما كان لهم من ملابسة الإبل ما ليس لهم من ملابسة غيرها ، وكانت فردة في المخلوقات لا شبيه لها مع ما لها من كثرة المنافع كما قال الحسن رحمه الله تعالى - مع أكلها لكل مرعى واجتزائها بأيسر شيء لا سيما في الماء وطول صبرها عنه مع عظم خلقها وكبر جرمها وشدة قوتها ، فكانت أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار ....{ إلى الإبل } ونبه على أن عجيب خلقها مما ينبغي أن تتوفر الدواعي على الاستفهام والسؤال عنه بأداة الاستفهام ، فقال بانياً للمفعول إشارة إلى أن الدال هو التأمل في مجرد خلقها الدال على إحاطة علم الله وعظيم إحسانه وقدرته تعالى وفعله بالاختيار وحسن تدبيره ....و { كيف } سؤال عن حال والعامل فيه { خلقت } وإذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته .
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت ? ) . . وتجمع هذه الآيات الأربعة القصار ، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة . كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله . حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال [ ممثلة لسائر الحيوان ] على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة . إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان . . السماء والأرض والجبال والحيوان . . وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه . موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها . والمعجزة كامنة في كل منها . وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها . وهي وحدها كافية لأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى . ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها ....، وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف . مرعاها ميسر ، وكلفتها ضئيلة ، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال ....
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ أفلا ينظرون } تفريع التعليل على المعلل لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء ، وإلى الاهتداء إلى أن منشئ النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء ، لا يُستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإِنسان بعد فنائه عن عدم ، وهو دون تلك الموجودات العظيمة الأحجام ، فكانَ إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة... والهمزة للاستفهام الإِنكاري إنكاراً عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته . والنظر : نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور ، وتعديته بحرف ( إلى ) تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق ، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا ، لما في ( إلى ) من معنى الانتهاء حتى كأنَّ النظر انتهى عند المجرور ب ( إلى ) انتهاءَ تمكن واستقرارٍ كما قال تعالى : { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك } [ الأحزاب : 19 ] وقوله : { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 23 ] .... ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإِهمال قُيّد فعل { ينظرون } بالكيفيات المعدودة في قوله : { كيف خلقت } ، { كيف رفعت } ، { كيف نصبت } ، { كيف سطحت } أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خَلقها ....
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وإنما ذكرت " الإبل " في هذا السياق من الآيات ، لأنها فعلا من عجائب المخلوقات ، فقد ميزها الله تعالى على غيرها بعينين وأذنين ومنخرين لا يوجد لهما نظير عند بقية الحيوانات ، لا في شكلهما ولا في وظيفتهما ، كما زودها بقوائم طويلة وأقدام منبسطة جعلت منها " سفينة الصحراء " التي تنقل الإنسان وتحمل الأثقال ، على امتداد العصور والأجيال مع استغنائها عن الماء لمدة شهرين متتاليين في فصل الشتاء وتحملها وطأة العطش في فصل الصيف ، وحملها لكتل من الشحم في سنامها فوق ظهرها ، دفعا لغائلة الجوع عنها ، وضمانا لاستمرار سيرها . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولابدّ من التذكير ، بأنّ «النظر » الوارد في الآية ، يراد به النظر الذي يصحبه تأمل ودراسة . ...