{ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ } كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله عز وجل بعدما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام ، وقيل : إنه تسلية له عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } [ يس : 76 ] وذلك بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وليس بشيء .
والهمزة للإنكار والتعجب والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } [ يس : 71 ] الخ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيداً للنكير السابق وتمهيداً لإنكار هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم ، ولا ريب في أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم وإحاطته بها أسهل وأتم فالإنكار والتعجيب من الإخلال بذلك كأنه قيل ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشتهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم أيضاً مع كون العلم بذلك في غاية الظهور ونهاية الأهمية ، ويشير كلام بعض الأجلة إلى أن العطف على { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ } السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس فإنه تعالى خلق للإنسان ما خلق ليشكر فكفر وجحد المنعم والنعم وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقاداً متذللاً فطغى وتكبر وخاصم ، وإيراد الإنسان مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان .
وقوله تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل { مُّبِينٌ } ظاهر متجاهر في ذلك عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل : أولم يرانا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة ، وإيراد الجملة اسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها . وفي «الحواشي الخفاجية » أن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقو للتعجيب ، والمراد بالإنسان الجنس ، والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقاً ، نعم نزلت الآية في كافر مخصوص ، أخرج جماعة منهم الضياء في المختارة عن ابن عباس قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال : يا محمد أيحيي الله تعالى هذا بعد ما أرم ؟ قال : نعم يبعث الله تعالى هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت الآيات { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان } إلى آخر السورة ، وفي رواية ابن مردويه عنه أن الجائي القائل ذلك أبي بن خلف وهو الذي قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد بالحربة ، وروي ذلك عن أبي مالك .
ومجاهد . وقتادة . والسدي . وعكرمة . وغيرهم كما في «الدر المنثور » ، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه أبو جهل بن هشام ، وفي أخرى عنه أيضاً أنه عبد الله بن أبي ، وتعقب ذلك أبو حيان بأن نسبة ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة ، وحكي عن مجاهد . وقتادة أنه أمية بن خلف ، والذي اختاره وادعى أنه أصح الأقوال أنه أبي بن خلف ثم قال : ويحتمل أن كلاً من هؤلاء الكفرة وقع منه ذلك ، وقيل معنى قوله تعالى : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } فإذا هو بعدما كان ماءً مهيناً رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح فهو حينئذٍ معطوف على { خلقناه } والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه ، و { مُّبِينٌ } متعد والكلام من متممات شواهد صحة البعث
{ 77 - 83 } { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ }
هذه الآيات الكريمات ، فيها [ ذكر ] شبهة منكري البعث ، والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه وأوضحه ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ } المنكر للبعث و الشاك فيه ، أمرا يفيده اليقين التام بوقوعه ، وهو ابتداء خلقه { مِنْ نُطْفَةٍ } ثم تنقله في الأطوار شيئا فشيئا ، حتى كبر وشب ، وتم عقله واستتب ، { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة ، فلينظر التفاوت بين هاتين الحالتين ، وليعلم أن الذي أنشأه من العدم ، قادر على أن يعيده بعد ما تفرق وتمزق ، من باب أولى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولم ير الإنسان} يعني أو لم يعلم الإنسان.
{أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} بيّن الخصومة فيما يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم عن البعث...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ":... أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول: "مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ "أنا خلقناه من نطفة فسوّيناه خلقا سَوِيّا، "فإذَا هوَ خَصِيمٌ "يقول: فإذا هو ذو خصومة لربه، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم، فيقول: مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها.
وقوله: "مُبِينٌ" يقول: يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} هذا يخرّج على الوجهين:
أحدهما: على الخبر أن قد رأى الإنسان أنا قد خلقناه من نطفة، فلا يفكّر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة غير قادر على إعادته.
والثاني: على الأمر بالرؤية والنظر، أي فلير الإنسان، ولينظر أن من قدر على خلق الإنسان مبتدأ من نطفة قادر على إعادته أي إعادة الشيء في الشاهد أهون، وأيسر من ابتدائهّ، إذ قد يحتذى، ويصوّر، بعد ما يقع البصر على الشيء، ويرى، ولا سبيل إلى احتذاء ما لم يروا ولا تصوير ما لم يعاينوا.
احتج الله عليهم بالشيء الظاهر الذي يعلم كل واحد أنه كذلك من غير تفكّر ولا تأمّل، والاحتجاج عليهم بالأشياء التي لم يذكر أبلغ وأكثر، نحو خلق الإنسان من هذه النطفة على الصورة التي صورها، والنسمة التي خلقها فيها ما لو اجتمع حكماء البشر كلهم ليعرفوا كيفية خلقه منها من تركيب العظم والشعر والعين والبصر والسمع والعقل وجميع الجوارح ما قدروا على درك ذلك، أو لو اجتمعوا ليعرفوا كيفية غذائهم بالأطعمة والأشربة التي جعلها غذاء لهم، والقوة التي بها يتقوّون على كل أمر، أن كيف قدر، وقسم على السواء في الجوارح كلها المواد التي بها ينمون، ويزيدون على الاستواء ما لو زاد في بعضها من قوى ذلك الطعام والشراب دون بعض، يزداد قوة على بعض، ونحو ذلك من العجائب، ولا سبيل إلى معرفة ذلك البتة بعد طول التفكر والتأمّل. لكنه احتج بالشيء الظاهر ليدركوا بالبديهة، ولا يدركون الآخر إلا بعد التأمل والتدبّر، والله أعلم.
{فإذا هو خصيم مبين} أي جدِل بيّن.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فإذا هو خصيمٌ مبينٌ} أي مجادل في الخصومة مبين للحجة، يريد بذلك أنه صار بعد أن لم يكن شيئاً مذكورا خصيماً مبيناً، فاحتمل ذلك أمرين: أحدهما: أن ينبهه بذلك على نعمه عليه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في الآية دلالة على صحة استعمال النظر، لأن الله تعالى أقام الحجة على المشركين بقياس النشأة الثانية على النشأة الأولى، وأنه يلزم من أقر بالأولى أن يقر بالثانية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{خَصِيمٌ مُّبِينٌ}: ينازعنا في خطابه، ويعترض علينا في أحكامنا بِزَعْمِه واستصوابه...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
مخلوق من نطفة ثم يخاصم، فكيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع الخصومة؟
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قبح الله عزّ وجلّ إنكارهم البعث تقبيحاً لا ترى أعجب منه وأبلغ، ودلّ على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي، وتوغله في الخسّة وتغلغله في القحة، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخسّ شيء وأمهنه، وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة، ثم عجب من حاله بأن يتصدّى مثله على مهانة أصله ودناءة أوّله لمخاصمة الجبار، وشرز صفحته لمجادلته، ويركب متن الباطل ويلج، ويمحك ويقول: من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه، ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به، وهو كونه منشأ من موات، وهو ينكر إنشاءه من موات، وهي المكابرة التي لا مطمح وراءهامعنى قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} فإذا هو بعد ما كان ماء مهيناً، رجل مميز منطيق قادر على الخصام، مبين: معرب عما في نفسه فصيح، كما قال تعالى: {أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية وَهُوَ فِى الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18].
ثم إنه تعالى لما ذكر دليلا من الآفاق على وجوب عبادته بقوله: {أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما} ذكر دليلا من الأنفس.
فقال: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} قيل إن المراد بالإنسان أبي بن خلف، وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر فهذه الآية رد عليه، إذا علمت عمومها فنقول فيها لطائف:
اللطيفة الأولى: قوله: {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا} [يس: 71] معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة، أو لم يروا خلق الأنعام لهم وعلى هذا فقوله تعالى: {أولم ير الإنسان} كلام أعم من قوله: {أو لم يروا}؛ لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم، فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم، فإن الإنسان قد يغفل عن الإنعام وخلقها عند غيبتها ولكن (لا يغفل) هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون. فقال: إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يغيب عن نفسه، فما باله أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة، فإن سائر النعم بعد وجوده.
وقوله: {من نطفة} إشارة إلى وجه الدلالة؛ وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة الصور، كان يمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو، وكذلك الحال في كل عضو، ولما كان خلقه عن نطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة، إلى هذا أشار بقوله تعالى: {يسقى بماء واحد} [الرعد: 4].
وقوله: {فإذا هو خصيم مبين} فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة، ومع هذا فهنالك ما هو أظهر وهو نطقه وفهمه، وذلك لأن النطفة جسم، فهب أن جاهلا يقول إنه استحال وتكون جسما آخر، لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم، وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب فقوله: {خصيم} أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان النطق؛ لأنه أعلى أحوال الناطق، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصما لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه.
وقوله: {مبين} إشارة إلى قوة عقله، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه؛ لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى: {من نطفة} إشارة إلى أدنى ما كان عليه، وقوله: {خصيم مبين} إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى: {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة} إلى أن قال تعالى:
{ثم أنشأناه خلقا آخر} فما تقدم من خلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظاما إشارة إلى التغيرات في الجسم وقوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر} إشارة إلى ما أشار إليه بقوله: {فإذا هو خصيم مبين} أي ناطق عاقل.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أنا خلقناه من نطفة "وهو اليسير من الماء، نطف إذا قطر.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الألف واللام في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ} للجنس، يعم كل منكر للبعث.
فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته؟ كما قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا حَريز، حدثني عبد الرحمن بن مَيْسَرة، عن جُبَيْر بن نفير، عن بُسْر ابن جَحَّاش؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَصق يوما في كفِّه، فوضع عليها أصبعه، ثم قال: «قال الله تعالى: ابن آدم، أنَّى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سَوَّيتك وعَدَلتك، مشيت بين بردَيك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بَلَغَت التراقي قلت: أتصدقُ وأنَّى أوان الصدقة؟». ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن جَرير بن عثمان، به
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أثبت سبحانه بهذا الدليل قدرته على ما هدد به أولاً من التحويل من حال إلى أخرى، فثبتت بذلك قدرته على البعث، وختم بإحاطة العلم الملزوم لتمام القدرة، أتبع ذلك دليلاً أبين من الأول فقال عاطفاً على {ألم يروا}: {أولم ير} أي يعلم علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر.
ولما كان هذا المثل الذي قاله هذا الكافر لا يرضاه حمار لو نطق، أشار إلى غباوته بالتعبير بالإنسان الذي هو -وإن كان أفطن المخلوقات لما ركب فيه سبحانه من العقل- تغلب عليه الإنس بنفسه حتى يصير مثلاً فقال: {الإنسان} أي جنسه منهم ومن غيرهم وإن كان الذي نزلت فيه واحداً.
{أنا خلقناه} بما لنا من العظمة.
{من نطفة} أي شيء يسير حقير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا أباه من تراب وأمه من لحم وعظام.
{فإذا هو} أي فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة النطفة وهي أنه {خصيم} أي بالغ الخصومة.
{مبين} أي في غاية البيان عما يريده حتى أنه ليجادل من أعطاه العقل والقدرة في قدرته.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
إيرادُ الجملةِ الاسميَّةِ للدِّلالةِ على استقرارِه في الخُصومةِ واستمرارِه عليها.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
" إذا "هي الفجائية: أي ألم يرَ الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه. وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته، ويشهده بعينه وحسه مكرراً معاداً. ثم لا ينتبه إلى دلالته، ولا يتخذ منه مصداقاً لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره.. (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين).. فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب؟ إنها نقطة من ماء مهين، لا قوام ولا قيمة! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا.. خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا. ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل! والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين. وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما أُبطلت شبه المشركين في إشراكهم بعبادة الله وإحالتهم قدرته على البعث وتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في إنبائه بذلك إبطالاً كليّاً، عطف الكلام إلى جانب تسفيه أقوال جزئية لزعماء المكذبين بالبعث توبيخاً لهم على وقاحتهم وكفرهم بنعمة ربهم، وهم رجال من أهل مكة أحسب أنهم كانوا يموهون الدلائل ويزينون الجدال للناس ويأتون لهم بأقوال إقناعية جارية على وفق أفهام العامة، فقيل أريد ب {الإِنسان} أُبيّ بن خلف. وقيل أريد به العاصي بنُ وائل، وقيل أبو جهل، وفي ذلك روايات بأسانيد، ولعل ذلك تكرر مرات تولى كلُّ واحد من هؤلاء بعضها.
ووجه حمل التعريف هنا على التعريف العهدي أنه لا يستقيم حملها على غير ذلك؛ لأن جعله للجنس يقتضي أن جنس الإِنسان ينكرون البعث، كيف وفيهم المؤمنون وأهلُ الملل، وحملها على الاستغراق أبعد إلا أن يراد الاستغراق العُرفي وليس مثل هذا المقام من مواقعه. فأما قوله تعالى في سورة النحل (4) {: {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} فهو تعريف الاستغراق، أي خلق كلَّ إنسان؛ لأن المقام مقام الاستغراق الحقيقي.
والمراد بخَصِيمٌ في تلك الآية: أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة، فالجملة معطوفة على جملة {أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم} [يس: 71] الآية. والاستفهام كالاستفهام في الجملة المعطوفِ عليها. والرؤية هنا قلبية. وجملة {أَنَّا خَلَقْناهُ} سادّة مسدّ المفعولين كما تقدم في قوله تعالى: {أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم مما عَمِلت أيدينا أنْعاماً} [يس: 71].