{ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على من يزعم فيهم خلافها فهو من كلامه تعالى لكنه حكى بلفظهم وأصله وما منهم إلا الخ أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزل عنه خضوعاً لعظمته تعالى وخشوعاً لهيبته سبحانه وتواضعاً لجلاله جل شأنه كما روي «فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه » وقد أخرج الترمذي وحسنه . وابن ماجه . وابن مردويه عن أبي ذر قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضعاً جبهته ساجداً لله » وأخرج ابن جرير . وابن أبي حاتم . وأبو الشيخ . ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون » وعن السدي { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } في القرب والمشاهدة ، وجعل بعضهم ذلك من كلام الجنة بمعنى الملائكة متصلاً بما قبله من كلامهم وهو من قوله تعالى : { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } إلى { المسبحون } [ الصافات : 159 ، 166 ] فقال بعد أن فسر الجنة بالملائكة : إن { سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ } حكاية لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على { عَلِمَتِ } [ الصافات : 158 ] و { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } [ الصافات : 160 ] شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئتهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وآكده على أنه استثناء منقطع من واو { يَصِفُونَ } كأنه قيل : ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برآء من ذلك الوصف ، و { فَإِنَّكُمْ } الخ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين عما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم ، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبريهم عنهم وعن عبادتهم كقولهم : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } [ سبأ : 41 ] وقولهم : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } الخ تبيين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وجعل تفسير الجنة بالملائكة هو الوجه لاقتضاء ربط الآيات وتوجيهها بما ذكر إياه وفي التعليل شيء ، نعم إن هذه الآية تقوي قول من يقول : المراد بالجنة فيما سبق الملائكة عليهم السلام تقوية ظاهرة جداً وإن الربط الذي ذكر في غاية الحسن ، وقيل : هو من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أي وما من المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وهو متصل بقوله :
{ فاستفتهم } [ الصافات : 149 ] كأنه قيل فاستفتهم وقال وما منا الخ على معنى بكتهم بذلك وانع عليهم كفرانهم وعدد ما أنت وأصحابك متصف به من أضدادها ، وإن شئت لم تقدر قل بعد علمك بأن المعنى ينساق إليه وهو بعيد فافهم والله تعالى أعلم .
و { مِنَّا } خبر مقدم والمبتدأ محذوف للاكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي { مَا مِنَّا } أحد إلا له مقام معلوم .
وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أوفى مطرد وهذا اختيار الزمخشري .
وقال أبو حيان { مِنَّا } صفة لمبتدأ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم .
وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد ، وقوله سبحانه : { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غيراً إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه ، وقال غيره : إن فيه أيضاً التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك ، ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا أحد إلا أحد له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره ، وفيه أن فيه اعترافاً بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبراً وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له ، وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال ، نعم قيل يجوز أن يقال : القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبراً وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة ، وفيه نظر .
ومن باب الإشارة : وقيل في قوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه وهذا بخلاف نوع الإنسان فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى } [ النجم : 10 ] ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين } [ الأعراف : 175 ] وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها { أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الأعراف : 179 ] نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه ويرزقنا رضاه يوم لقاه وأن يجعلنا من جنده الغالبين وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ" وهذا خبر من الله عن قِيل الملائكة أنهم قالوا: وما منا معشر الملائكة إلا من له مقام في السماء معلوم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل هذا منهم، أعني الملائكة، وجهين:
أحدهما: قالوا ذلك تبرئة لأنفسهم من أن يأمروا بالعبادة لهم، أي لم نتفرّغ نحن لعبادة هؤلاء طرفة عين، فكيف نأمر هؤلاء بعبادتنا؟ كقولهم: {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم} [سبأ 41].
والثاني: أن يقولوا: إن ولايتك التي واليتنا شغلتنا عن جميع ما ذكروا.
يحتمل قوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم}: مكانا معلوما محدودا لا يبرح منه ولا يفارقه، ويحتمل {مقام معلوم} أي عبادة معلومة نحو ما ذكر حكيم بن حزام: قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هل تسمعون ما أسمع؟ قلنا: يا رسول الله ما تسمع؟ قال: أسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئِطّ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد) [الترمذي 2312].
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
يعني إلاّ من له، {مَقَامٌ مَّعْلُومٌ}: مكان مخصوص في العبادة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
ما منا يوم القيامة إلا من له فيها مقام معلوم بين يدي الله عز وجل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الملائكة لهم مقام معلوم لا يَتَخطَّوْنَ مقامَهم، ولا يتعدَّوْن حدَّهم، والأولياءُ لهم مقام مستورٌ بينهم وبين الله لا يُطْلِعُ عليه أحداً، والأنبياءُ لهم مقام مشهورٌ مؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة؛ لأنهم للخَلْقِ قدوة فأَمْرُهُم على الشّهْرِ، وأَمْرُ الأولياءِ على السَّتْرِ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
حكى قول الملائكة، {وما منا} وهذا يؤيد أن الجنة أراد بها الملائكة...
الجمهور على أنهم الملائكة، وصفوا أنفسهم بالمبالغة في العبودية، والغرض منه التنبيه على فساد قول من يقول إنهم أولاد الله، وذلك لأن مبالغتهم في العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية، واعلم أن هذه الآية تدل على ثلاثة أنواع من صفات الملائكة فأولها قوله تعالى: {وما منا إلا مقام معلوم} وهذا يدل على أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ودرجة لا يتعدى عنها، وتلك الدرجات إشارة إلى درجاتهم في التصرف في أجسام هذا العالم إلى درجاتهم في معرفة الله تعالى.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من المعلوم أن هذا الاستفتاء من النبي صلى الله عليه وسلم وقع امتثالاً للأمر المصدر به، وبطل بهذه الجملة قدرتهم وقدرة معبوداتهم التي يدعون لها بعض القدرة، قال مؤكداً لذلك ومبطلاً لقدرة المخلصين أيضاً عطفاً على {فإنكم وما تعبدون}: {وما منا} أي نحن وأنتم ومعبوداتكم وغير ذلك، أحد {إلا له مقام معلوم} قد قدره الله تعالى في الأزل، ثم أعلم الملائكة بما أراد منه فلا يقدر أحد من الخلق على أن يتجاوز ما أقامه فيه سبحانه نوع مجاوزة...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
من باب الإشارة: وقيل في قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه، وهذا بخلاف نوع الإنسان، فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} [النجم: 10] ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيطان فَكَانَ مِنَ الغاوين} [الأعراف: 175] وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها {أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179]...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن يكون عطفاً على قوله: {إلاَّ عبادَ الله المخلصين} [الصافات: 160] على أول الوجهين في المعنيّ بعباد الله المخلَصين فيكون عطفاً على معنى الاستثناء المنقطع؛ لأن معناه أنهم ليسوا أولاد الله تعالى، وعُطف عليه أنهم يتبرأون من ذلك فالواو عاطفة قولاً محذوفاً يدل عليه أن ما بعد الواو لا يصلح إلا أن يكون كلام قائل، والتقدير: ويقولون ما منّا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصّافون وإنّا لنحن المسبّحون، وهذا الوجه أوفق بالصفات المذكورة من قوله: {إلاَّ له مقام معلوم}. ويجوز أن يكون هذا مما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله للمشركين عطفاً على التفريع الذي في قوله: {فإنَّكم وما تعبدون} إلى آخره ويتصل الكلام بقوله: {فاستفتهم ألربك البنات} [الصافات: 149] إلى هنا، والمعنى: ما أنتم بفاتنيننا فتنةَ جراءة على ربنا فنقول مثل قولكم: الملائكة بنات الله والجنُ أصهار الله فما منا إلاّ له مقام معلوم لا يتجاوزه وهو مقام المخلوقيّة لله والعبودية له.
المقام: أصله مكان القيام، ولما كان القيام يكون في الغالب لأجل العمل كثر إطلاق المقام على العمل الذي يقوم به المرء كما حُكيَ في قول نوح: {إن كان كبر عليكم مقامي} [يونس: 71] أي عملي.
المعلوم: المعيّن المضبوط، وأطلق عليه وصف {مَعْلُومٌ} لأن الشيء المعيّن المضبوط لا يشتبه على المتبصر فيه فمن تأمّلَه عَلِمَه، والمعنى: ما من أحد منا معشر المؤمنين إلا له صفة وعمل نحو خالقه لا يستزله عنه شيء ولا تروج عليه فيه الوساوس فلا تطمعوا أن تزِلونا عن عبادة ربنا، فالمقام هو صفة العبودية لله بقرينة وقوع هذه الجملة عقب قوله: {فإنَّكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتِنينَ}، أي ما أنتم بفاتنين لنا فلا يلتبس علينا فضل الملائكة فنرفعه إلى مقام البنوّة لله تعالى ولا نُشبّه اعتقادكم في تصرف الجن أن تبلغوا بهم مقام المصاهرة لله تعالى والمداناة لِجلاله كقوله: {وجعلوا للَّه شركاء الجن وخلقهم} [الأنعام: 100]...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الجميل في هذه العبارة أنّ الملائكة هي التي تتحدّث عن نفسها (وما منّا إلاّ له مقام معلوم).