{ الذين آمَنُواْ } أي بكل ما جاء من عند الله تعالى { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } عما يحق الاتقاء منه من الأفعال والتروك اتقاء دائماً حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل والموصول في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، والجملة استئناف بياني كأنه قيل : من أولئك وما سبب فوزهم بما أشار إليه الكلام السابق ؟ فقيل : هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير المجنبين عن كل شر ؟ ولك أن تقصر في السؤال على من أولئك فيكون ذلك بياناً وتفسيراً للمراد من الأولياء فقط ، وعلى الأول هذا مع الإشارة إلى ما به نالوا مالوا ، وقيل : محله النصب أو الرفع على المدح أو على أنه وصف للأولياء . ورد بأن في ذلك الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر . وقد أباه النحاة . نعم جوزه الحفيد ، وجوز فيه البدلية أيضاً ، والمراد من التقوى عند جمع المرتبة الثالثة منها وهي التقوى المأمور بها في قوله تعالى : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] وفسرت بتنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية ، وبذلك يحصل الشهود والحضور والقرب الذي يدور إطلاق الاسم عليه ، وهكذا كان حال من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب بقوله سبحانه وتعالى : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } [ يونس : 61 ] الخ خلا أن لهم في شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة حسبما درجات تفاوت استعداداتهم ، وأقصى الدرجات ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى جمعوا بذلك بين رياسة النبوة والولاية ولم يعقهم التعلق بعالم الأشباح عن الاستغراق في عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلف عن التبتل إلى جناب الحق سبحانه عز وجل لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية كذا قيل ، وفي كون حال كل من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب مراداً به جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما أشار إليه من التقوى الحقيقية المأمور بها في الآية التي بها يحصل الشهود والحضور والقرب بحث ، وقصارى ما تحقق بعد نزاع طويل ذكرناه في جوابنا لبسؤال أهل لاهور أن الصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتنة ومن لم يلابسها ودعوى أن العدالة تستلزم الولاية بالمعنى السابق أن تمت تم المقصود وإلا فلا ، والآية ظاهرة في أن الأولياء هم المؤمنون المتقون وأقل ما يكفي في إطلاق الولي التقرب إليه سبحانه بالفرائض من امتثال الأوامر واجتناب الزواجر ، والأكمل التقرب إليه جل شأنه بكل ما يمكن من القرب ، وفي المبين المعين الولي هو من يتولى الله تعالى بذاته أمره فلا تصرف له أصلاً إذ لا وجود له ولا ذات ولا فعل ولا وصف ، والتركيب يدل على القرب فكأنه قريب منه عز وجل لاستدامة عباداته واستقامة طاعاته أو لاستغراقه في بحر معرفته ومشاهدة طلعة عظمته انتهى ، وفيه القول بأن الولي فعيل بمعنى مفعول ، وجوز أن يكون بمعنى فاعل ، وفسر بأنه من يتولى عبادة الله تعالى وطاعته على التوالي من غير تخلل معصية ، وعن القشيري أن كلا الوصفين تولى الله تعالى أمره وتولية عبادة الله تعالى وطاعته شرط في الولاية غير أن الوصف الأول غالب على المجذوب المراد والثاني على السالك المريد ، ولا يخفى أن هذا الكلام وكذا ما قبله يدل على أن تخلل المعصية مناف للولاية وهو الذي يشير إليه كلام غير واحد من الفضلاء ، وليس في ذلك قول بالعصمة التي لم يثبتها الجماعة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل قصارى ما فيه القول بالحفظ ، وقد قيل : الأولياء محفوظون وفسر بعدم صدور الذنب مع إمكانه ، والقيد لإخراج العصمة .
نعم جاءت العصمة بمعنى الحفظ المفسر بما ذكر ، وعلى ذلك خرج قول صاحب حزب البحر اللهم اعصمني في الحركات والسكنات لأن الدعاء بما هو من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز كالدعاء بسائر المستحيلات كما حقق في محله . وأطلق بعضهم القول بأن تخلل ذلك غير مناف احتجاجاً بما حكى عن الجنيد قدس سره أنه سئل هل يزني العارف ؟ فقال : نعم { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } [ الأحزاب : 38 ] ، وتعقب بأنه محمول على الإمكان سؤال وجواباً ولا كلام فيه وإنما الكلام في أن الوقوع مناف أو غير مناف ، وقال بعضهم : لا شبهة في عدم بقاء وصف الولاية حال التلبس بالمعصية إذ لا تقوى حينئذ بالإجماع ومدار هذا الوصف عليها وكذا على الإيمان ، وهو غير كامل إذ ذاك عند أهل الحق وغير متحقق أصلاً بل المتحقق الفسق المعنى بالواسطة أو الكفر عند آخرين ، وكذا لا شبهة في عدم منافاة وقوع المعصية الاتصاف بالولاية بعده بأن يعود من ابتلى بذلك إلى تقوى الله تعالى ويتصف بما تتوقف الولاية عليه ، وهو نظير من يتصف بالإيمان أو بالعدالة مثلاً بعد أن لم يكن متصفاً بذلك بقي الكلام في منافاة الوقوع الاتصاف قبل ، فإن قيل : إنه مناف له بمعنى أنه لذلك لم يكن متصفاً قبل بما هو إيمان وتقوى عند الناس فلا شبهة أيضاً في عدم المنافاة بهذا المعنى وهو ظاهر وإن قيل : إنه مناف له بمعنى أنه لم يكن لذلك متصفاً بما ذكر عند الله تعالى بناء على أن المراد بالتقوى التي هي شرط الولي التقوى الكاملة التي يترتب عليها حب الله تعالى المترتب عليه الحفظ كما أشير إليه فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها »
وقد قال غير واحد في معنى الشرطية فإذا أحببته كنت حافظاً حواسه وجوارحه فلا يسمع ولا يبصر ولا يأخذ ولا يمشي إلا فيما ارضى وأحب وينقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات ، وقريب منه قول الخطابي : المراد من ذلك توفيقه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء ، يعني ييسر عليه فيها سبيل ما يحبه ويعصمه عن موافقة ما يكرهه من إصغاء إلى لهو يسمعه ونظر إلى ما نهى عنه ببصره وبطش بما لا يحل بيده وسعى في باطل برجله ، وكذا قول بعضهم المعنى أجعل سلطان حبي غالباً عليه حتى أسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقر بها إلي فيصير متخلياً عن اللذات متجنباً عن الشهوات متى ما يتقلب وأينما يتوجه لقى الله تعالى بمرأى فيه وسمع منه ويأخذ حب الله تعالى مجامع قلبه فلا يسمع ولا يرى ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون له في ذلك عوناً ومؤيداً ووكيلاً يحمي جوارحه وحواسه فله وجه لأنه إذا وقعت المعصية يعلم أنه لم يكن محفوظاً وبه يعلم أنه لم يكن محبوباً وبذلك يعلم أنه لم يكن متقرباً إليه تعالى شأنه ومتقياً إياه حق تقاته وان ظنه الناس كذلك فهو ليس من أوليائه سبحانه في نفس الأمر . نعم من اتصف بصفات الأولياء ظاهراً يجب تعظيمه واحترامه والتأدب معه والكف عن إيذائه بشيء من أنواع الإيذاء التي لا مسوغ لها شرعاً كالإنكار عليه عناداً أو حسداً دون المنازعة في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض ونحو ذلك لما دل عليه الحديث السابق المشتمل من تهديد المؤذي على الغاية القصوى والحكم على من ذكره لولاية إذا لم يكن هناك نص من معصوم على ما يدل على تحققها في نفس الأمر إنما هو بالنظر إلى الظاهر لا إلى ما عند الله تعالى لما أن من الذنوب ما لا يمكن أن يطلع عليه إلا علام الغيوب ومنها الذنوب القلبية التي هي أدواء قاتلة وسموم ناقعة من أن الأعمال بخواتيمها وهي مجهولة إلا للمبدىء المعيد جل جلاله { هذا } وهو تحقيق يلوح عليه مخايل القبول ، ومن الناس من قسم الولاية إلى صغرى قد يقع فيها الذنب على الندرة لكن يبادر للتنصل منه فوراً وعد العلامة ابن حجر عليه الرحمة من وقع منه الذنب كذلك فبادر للتنصل منه محفوظاً فالوقوع عنده على الندرة مع المبادرة للتنصل لا ينافي الحفظ وإنما ينافيه تكرر الوقوع وكثرته وكذا ندرته مع عدم المبادرة للتنصل ، وكبرى لا يقع فيها الذنب أصلاً مع إمكان الوقوع ولو قيل أو مع استحالته كما في ولاية الأنبياء عليهم السلام وادعى أن ذلك من خصوصيات ولايتهم فيكون الحفظ أعم من العصمة لم يبعد .
وأنت تعلم أن قولهم الأنبياء معصومون ظاهر في كون العصمة من توابع النبوة ومعللة بها وهو مخالف لتلك الدعوى كما لا يخفى ، وما ذكر من التقسيم حسن ويعلم منه أن الكثير ممن يدعي الولاية في زماننا أو تدعى له ليس له منها سوى الدعوى لإصراره والعياذ بالله تعالى على كبائر تقع منه في اليوم مراراً عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الأولياء ما يظن أنه مخالف لما دلت عليه الآية في ذلك . فقد أخرج ابن المبارك : والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ . وابن مردويه . وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قيل : يا رسول الله من أولياء الله ؟ قال : " والذين إذا رؤا ذكر الله تعالى " أي لحسن سمتهم وأخباتهم .
وأخرج أحمد . وابن أبي حاتم . والبيهقي . وجماعة عن أبي مالك الأشعري قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للهتعالى عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله تعالى . قال أعرابي : يا رسول الله انعتهم لنا قال : «هم أناس من افناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متفاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله تعالى لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها يفزع الناس وهم لا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ولا مخالفة في الحقيقة فإن ما أشير إليه من حسن السمات والأخبات والتحاب في الله تعالى من الأحكام اللازمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربنا من أفهام الناس ، وقد أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والتذكير ترغيباً لسائل أو حاضر فيما خصه بالذكر من أحكامهما ، وأريد بوصهفهم بأنهم يغبطهم النبيون على مجالسهم وقربهم الإشارة إلى راحتهم مما يعتري الأنبياء عليهم السلام من الاشتغال بأممهم ، والمراد أنهم يغبطونهم على مجموع الأمرين ، وعن الكواشي أن ذلك خارج مخرج المبالغة ، والمعنى أنه لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء . وقال بعض المحققين : إن ذلك تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل ، وأيا ما كان فلا دليل فيه على أن الولاية أفضل من النبوة وقد كفر معتقد ذلك ، وقد يؤول له بحمل ذلك على أن ولاية النبي أفضل من نبوته كما حمل ما قاله العز بن عبد السلام المخالف للأصح من أن النبوة أفضل من الرسالة على نحو ذلك ، وكذا لنظير ما ذكرنا لا يخالف ما دلت الآية عليه تفسير عيسى عليه السلام لذلك .
فقد أخرج أحمد في الزهد . وابن أبي حاتم . وأبو الشيخ عن وهب قال : قال الحواريون : يا عيسى من أولياء الله تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ؟ فقال عليه السلام : الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها استقلالاً وذكرهم إياها فواتاً وفرحهم بما أصابوا منها حزناً وما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه ، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها ، يحدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم ، رفضوها فكانوا برفضها هم الفرحين ، باعوها فكانوا ببيعها هم الرابحين ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة ، يحبون الله سبحانه وتعالى ويستضيؤون بنوره ويضيؤون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب ، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا ، ليس يرون نائلاً مع نالوا ولا أماني دون ما يرجون ولا فرقاً دون ما يحذرون .