روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ} (64)

{ لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الاخرة } استئناف جيء به في موضع التعليل لنفي حزنهم والخوف عليهم في قول ، وفي آخر جيء به بياناً لما أولاهم سبحانه من خيرات الدارين بعد أن أخبر جل وعلا بانجائهم من شرورهما ومكارههما وكأنه على هذا قيل : هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة ؟ فقيل : لهم البشرى الخ ، وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من رعاية حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفترين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال ، وتوسيط البيان السابق بين التخلية والتحلية لإظهار كمال العناية به مع الإيذان بأن انتفاء ما تقدم لإيمانهم واتقائهم عما يؤدي إليه من الأسباب ، ومن الناس من فسر الأولياء بالذين يتولنه تعالى بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل { الذين آمنوا } [ يونس : 63 ] الخ تفسيراً لتوليهم إياه تعالى ، وهذه الجملة تفسيراً لتوليته تعالى إياهم .

وتعقب بأنه لا ريب في أن اعتبار القيد الأخير في مفعوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولي بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره في عنوان الموضوع ثم الأخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل انتهى ، وأنت تعلم أن ما ارتكبه ذلك البعض تكلف وعدول عن الظاهر فلا ينبغي العدول إليه وإن كان ما ذكره المتعقب لا يخلو عن نظر .

وجوز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره ، وفي بعض الأخبار ما يؤيده ، و { البشرى } في الأصل الخبر بما يظهر السرور في بشرة الوجه ومثلها البشارة وتطلق على المبشر به من ذلك وإلى إرادة كل ذهب بعض ، والظرفان بعده على الأول متعلقان به وعلى الثاني في موضع الحال منه ، والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة ؛ أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، والثابت في أكثر الروايات أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزأ من النبوة كما هو المشهور ، أو جزء من سبعين جزأ منها كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر . وأبي هريرة . وهو . وابن ماجه عن الأول . فقد أخرج الطيالسي . وأحمد . والدارمي . والترمذي . وابن ماجه . والطبراني . والحاكم وصححه . والبيهقي . وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } قال : هي

«الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له » وأخرج ابن جردويه عن ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجيب بما ذكر أيضاً ، وأخرج من طريق أبي سفيان عن جابر مثل ذلك ، وأخر ابن أبي الدنيا . وأبو الشيخ . وأبو القاسم بن منده من طريق أبي جعفر عن جابر المذكور قال : أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى : { الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ البشرى } الخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أما قوله تعالى : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه وأما قوله سبحانه : { وَفِي الاخرة } فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك » وجاء مرفوعاً وموقوفاً عن غير واحد تفسيرها بما ذكر ، وأخرج ابن جرير . وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن البشرى في الحياة الدنيا هي قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] وعن الزجاج . والفراء أنها هذا وما يشاكله من قوله تعالى : { وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ } [ يونس : 2 ] وقوله سبحانه : { يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ } [ التوبة : 21 ] ، وقوله جل وعلا : { وَبَشّرِ الصابرين } [ البقرة : 155 ] إلى غير ذلك ، وأخرج ابن أبي شيبة . وغيره عن الضحاك أنه قال في ذلك : إنهم يعلمون أين هم قبل أن يموتوا . وجاء في تفسير البشرى في الآخرة ما سمعت في الخبر عن جابر الأخير .

وأخرج ابن جرير . وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً أنها الجنة ، وعن عطاء أن البشرى في الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة قال الله تعالى : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة } [ فصلت : 30 ] وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة اياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها وغير ذلك من البشارات ، وقيل : المراد بالبشرى العاجلة نحو النصر والفتح والغنيمة والثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس وغير ذلك ، وأما البشرى الآجلة فغنية عن البينا ، وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير ذلك إذا صح وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن ، فالأولى أن يحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائناً ما كان ، ويرشد إلى ذلك السباق ، ومن أجل ذلك بشرى الملائكة لهم بذلك وقتاً فوقتاً حتى يدخلوا الجنة ، وقد نطق الكتاب العزيز في غير موضع بهذه البشرى من الله تعالى علينا بها برحمته وكرمه { لاَ تَبْدِيلَ * لكلمات الله } أي لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولاً أولياً ويثبت امتناع الاخلاف فيها لطفاً وكرماً ثبوتاً قطعياً ، وأريد من عدم تبديل كلماته سبحانه على تقدير أن يراد من البشرى الرؤيا الصالحة عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تبارك اسمه : { لَهُمُ البشرى } لا عدم الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية ولم يظهر لي وجهه بعد التدبر ، والمشهور أن الرؤيا الصالحة لا يتخلف ما تدل عليه .

وقد جاء من حديث الحكيم الترمذي . وغيره عن عبادة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له في الرؤيا الصالحة «كلام يكلم به ربكعبده في المنام » { ذلك } أي ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين { هُوَ الفوز العظيم } الذي لا فوز وراءه ، وجوز أن تكون الإشارة إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل : إن ذلك إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى وجعل غير واحد الجملة الأولى وهذه الجملة اعتراضاً جيء به لتحقيق المبشر به لتعظيم شأنه وهو مبني على جواز تعدد الاعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام . ولذا قال العلامة الطيبي : لو جعلت الأولى معترضة والثانية تذييلاً للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لهما كان أحسن بناء على أن ما في آخر الكلام يسمى تذييلاً لا اعتراضاً وهو مجرد اصطلاح .

( ومن باب الإشارة ) : ومن جعل قوله سبحانه : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } [ يونس : 64 ] أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية ، أو لا تبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكام تجلياته جل وعلا النازلة بهم ، أو لا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها ، ويقال لكل محدث كلمة لأنه أثر الكلمة